للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
قيمة الكتاب العلمية:
أصل هذا الكتاب مداخلة علمية قدّمها الكاتب إلى المؤتمر الرابع عشر بعنوان “المحبة في القرآن الكريم”، والذي نظّمته مؤسسة آل البيت المَلَكِية للفكر الإسلامي بعمان بدولة الأردن، من الرابع وحتى السادس من شهر شتنبر 2007م، نقّحها وزاد فيها لتخرج في صيغة كتاب طبعته دار الفكر بدمشق في نسخة رابعة سنة 2011م.
وقيمة الكتاب تكمن أساسا في كون هذا الموضوع لم يَحْضَ بدراسة خاصة كما عبّر عن ذلك المُؤلِف بنفسه حيث قال: “بحثت فلم أعلم أن في الكتّاب أو الباحثين والمؤلفين من ألّف شيئاً في الحب، كما نقرؤه في كتاب الله”(ص:9)
كما أن قيمة الموضوع الذي يتناوله الكتاب زادته قيمة مضافة لما هو عليه، كونه يُقَارِب موضوعا جليلا يَهُمُّ علاقة الحب التي تجمع بين الخالق والمخلوق(الإنسان).
دون أن ننسى جمالية الكتابة التي تُبْرِز جانب التميّز والإبداع الذي يتحلى بهما صاحب الكتاب، ما يعطي للقراءة طعما خاصا، حيث يَظهر الحس الأدبي جليا أثناء تذوق معاني الكلمات ودلالاتها العميقة.
منهج المؤلف في الكتاب:
سلك الكاتب -رحمه الله- أثناء تحريره لمباحث هذا الكتاب منهجاً علميا رصينا، حيث عمد إلى الكتابة بأسلوب سلس بديع وهو يَعْرِض للفكرة ويستجليها شرحا وتوضيحا.
كما كان يناقش قضايا الموضوع بسرد ما يُمكن أن يعرض لها من احتمالات ويقدمها على شكل أسئلة قد تتبادر إلى ذهن القارئ، ثم يجيب عنها، مستعينا في مناقشة كل فكرة بالدليل، حيث يأتي بأمثلة توضيحية تدعم ما ذهب إليه. وزيادة في البيان كان غالبا ما يستحضر تجارب من الواقع ويعرضها كشواهد.
ومن أهم ما يمكن ملاحظته في منهج الكتابة لديه هو بروز النزعة الصوفية في الكتاب بشكل واضح، سواء من خلال ما جاء فيه من إشارات على لسان المؤلف، أو من خلال هوية النصِّ ولغته التي تدل على ذلك.
موضوعات الكتاب:
اختار المؤلف أن يجعل كتابه هذا -بعد التقديم له- في قسمين: القسم الأول: خصصه للحديث عن الحب في القرآن وذلك من خلال ثلاثة مباحث، الأول: في محبة الله للإنسان. والثاني: في محبة الإنسان لله. والثالث: في محبة الإنسان للإنسان.
أما القسم الثاني: فتطرق فيه للحديث عن دور الحب في حياة الإنسان، وتناوله أيضا من خلال ثلاثة مباحث، الأول: في كون الإنسان ثنائي التركيب. والثاني: عن دور الحب في أعمال الدعوة والتعريف بالإسلام. بينما أبرز في الثالث: بعض الآثار التي يحققها الحب في مسلك الدعوة إلى الله.
وجعل لكتابه خاتمة ضَمَّنَها جملة من النصائح التي قدّمها للقارئ ليظفر بحب الله ويُحَصِّل سعادة الدارين؛ الدنيا والآخرة.
في ثنايا الكتاب:
بأسلوب بديع رائع وماتع يُغري بالقراءة يَحْمِلنا الكاتب في شوق إلى عالم الملكوت لنعيش في رحاب الله جل وعلا من خلال صفحات هذا الكتاب القيم فتسمو أرواحنا من عالم الدنو لتُحَلّق عاليا في آفاق حب ممتد في الأزل مُخَلَّد إلى الأبد.
الكتاب يتحدث عن حب الله تعالى لعباده وعلاقة الحب التي تجمع الإنسان بربه وبغيره، ويتجلى ذلك من خلال القرآن الكريم الذي يُبرِز قوة هذا الحب الذي يشمل الله سبحانه به عباده، حيث استدل الكاتب بجملة من الآيات القرآنية التي تلتقي كلها على جامع مشترك تتضمن بوضوح المكانة المتميزة للإنسان عند الله، وذلك بتكريمه له، وتفضيله على كثير مِن خَلْقه، بتسخير كل ما في الكون لخدمته وتحقيق رغباته واحتياجاته.
وقد بين الله تعالى للإنسان سُبُلَ الوصول إلى هذا الحب من خلال ما رَسَمه له في قرآنه وفصّله له عن طريق سنة نبيه .
فمن اتبع المنهج الرباني ولزمه نال حب الله تعالى والمخلوقات جميعا وأصبح محلا لألطافه ورحماته، وتَحقق فيه قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه (المائدة:45). وقوله في الحديث القدسي:«مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»(رواه البخاري). حيث إن المهمة العظمى التي أنيطت بالإنسان، هي العمل على استبقاء الحب الرباني الذي ميزه الله به عن سائر الأحياء منذ فطرته الأولى.
فمن سارع إلى تحقيق شروط هذه المحبة نالها، ومن انقاد لهواه وشهواته وحَادَ عن منهج ربه دون انضباط بشرعه سُلبت منه هذه المزية وزُجّ به في نقيضها وصدق عليه قول الله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين (التين:5). وقوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (طه:124).
فمصير هذا الحب إذن مَنُوط بالمصير الذي يتخذه الإنسان اتجاه التكاليف التي شرّفه الله جل وعلا بها والوصايا التي أمره بها.
وعرّف الكاتب الحب بأنه التعلق بالشيء على وجه الاستئناس بقُرْبِه والاستيحاش من بُعْدِه، بينما حب الله عز وجل مُنزّه عن الشبه بهذا الحب، لكن من دون أن يُصْرَف إلى المعنى المجازي كالرضا، والإنعام، والمثوبة، والحماية من أسباب الشقاء، بل هو حب بمعناه الحقيقي دون أي تأويل، ودون تكييف أو تشبيه أيضا، وشواهد ذلك صريحة واضحة في القرآن الكريم.
كما تحدث الكاتب عن الأسباب الموجبة للمحبة من جمال وإحسان وعظمة الذات، وخلص إلى أن الذي يستحق الحب بمعناه الحقيقي إنما هو الله المتفرد في الجلال والكمال والجمال، لأن هذه الأسباب الثلاثة للحب ليست موجودة عند التحقيق إلا في ذاته هو، وليس لأحد أن يتصف بهذه الصفات مجتمعة إلا الله تعالى، ومن اتصف ببعضها لا يعدو ذلك إلا أن يكون فيضا من إكرامه تعالى لخلقه، أما حب الإنسان لأخيه الإنسان فما هو إلا ثمرة لحب الله تعالى.
واعتبر ما جاء في القرآن والسنة من أن الإنسان يولد على الفطرة يستلزم أن يكون الإنسان مفطورا على محبة خالقه ومولاه، كما يُمْكِنُه أن يكسبها بتحقيق أسبابها كمراقبة الله، وتجنب أكل الحرام، ومجالسة الصالحين.
وخلص إلى أن الإيمان العقلي بالله وحده مَهْمَا استقرت جذوره يقينا في العقل، ومَهْمَا تكاثرت أدلته العلمية والمنطقية، لا يُحقّق المقصود إلا إذا امتزج بالحب الإلهي، لذلك فلا يمكن للإنسان أن يُحَلّق في سماء الطاعة إلا بجناحين، جناح الإدراك العقلي لحقائق الإيمان وجناح حبه لله جل وعلا، فالعقل مصدر الإيمان، والحب مصدر الالتزام، ما يدعو إلى ضرورة إقامة التوازن بين ثنائية الروح والجسد. وأشار إلى أن عزة الحب لله لا تستلزم كمال الانقياد الدائم لشرعه، لضعف الإنسان من جرّاء محدودية قدراته وتَسلُّط الغرائز الحيوانية، لذلك لا تنتفي هذه المحبة بوجود المعاصي حسب ما ورد في الأثر.
واعتبر أن السبيل إلى تحصين إيمان الإنسان العقلاني بحصن المحبة له وتغليبه على محبة سائر الأغيار رهين بربط النعم الوافدة على الإنسان بالمنعم تعالى، لينتهي الى أن أجل ثمرات المحبة وأقدسها اتباع المحبوب لقوله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ (آل عمران:31)، معتبرا أن محبة الله غاية وليست وسيلة.
وختم كتابه بالحديث عن أثر الحب الصادق في إنجاح أعمال الدعاة.
الباحث جليل أقديم