مما يتميز به كل مجتمع راشد، حرصه على صيانة طاقاته من الضياع، ومقدراته من الإهدار، ويقع في الصلب والصدارة من تلك المقدرات والطاقات، ما يمثله عنصر الإنسان باعتباره كيانا متكامل الخصائص والصفات، وباعتباره قيما وأمينا، في حالة كونه راشدا، على ما سواه من الكنوز والطاقات التي يزخر بها المجتمع، والتي هي قابلة لحسن استثمارها وتطويعها، لأنها تمثل وسائل للسعادة والرخاء، ولأنها تشكل مقوما هاما من مقومات الأمن والسلام داخل سفينة المجتمع، وذلك هو المطلوب من الإنسان باعتبار ما أنيط به من القيام بأمانة الاستخلاف التي هي عمارة الأرض وفق أمر الله تعالى جلت قدرته وعز سلطانه.
أما إذا تعرض بناء الإنسان للهدم المادي والمعنوي، بواسطة معاول يتفنن في صنعها شياطين الإنس، أو بنصب شراك يستدرج للسقوط فيها فتتهشم عظامه، وتتحطم معنوياته، ويصبح مع مرور الوقت مجردا من إنسانيته، وقابلا لأن يكون عبدا ذليلا لأولئك الشياطين، يأتمر بأمرهم وينفذ مخططاتهم، تحت شعارات متنوعة وعناوين شتى، فإن ذلك يكون إيذانا بانقلاب مدمر في حياة الإنسان، حيث تفقد فيه هذه الحياة ما تستوجبه من مقومات الوجود والنماء، ومن عناصر الإبداع والتألق والبقاء.
ولسنا نبالغ إذا ما اعتبرنا التدخين من أعتى ما استخدمته وتستخدمه قوى الإفساد والتخريب في هذا العالم لاستحمار الإنسان، وإفراغه من جوهره ومحتواه الإنساني، وتجريده من عنصر الإرادة الذي يمثل الخيط الذهبي في كيان الإنسان، والذي يصبح عند غيابه مجرد هيكل أجوف أو شبح هزيل، على مستوى الوجود المعنوي، والمقياس الآدمي، أما على مستوى ما هو مسخر له من مهمات التخريب والفساد، فهو يمثل نزيفا حقيقيا للحضارة، وحركة مضادة لسعي الإنسان نحو الكمال والاستواء، وتسويدا لوجه الإنسان، ووصمة عار على جبينه، ولوثة في معينه ومجراه، وتشويها يحجب جماله ويسلبه جوهره وفحواه.
ويأبى الله إلا أن يجعل من التدخين والمدخنين في المجتمع عاملا من عوامل التخلف والفقر والتضعضع المرضي الذي ينحط به إلى دركات مهولة من الأوجاع والآلام، ومن العلل والأسقام، ومن التنافر والاضطراب في العلاقات الأسرية والاجتماعية، ومن التلوث المريع الذي يحول المدن والقرى إلى بؤرة للقذارة، ويحول الناس قسرا إلى مدخنين سلبيين تناهز نسبتهم في المغرب 41%، في مقابل 18% التي تمثل نسبة المدخنين الحقيقيين في صفوف البالغين 15 سنة فما فوق، وهذا علاوة على الشرخ الخطير الذي يحدثه التدخين في البناء الاقتصادي، فالمغرب «يعد أحد أكبر مستهلكي الدخان في المنطقة المتوسطية»، حيث يستهلك ما يزيد عن 15 مليار سيجارة في العام.
(وبالرغم من أنه)، ليست هناك إحصائيات عن عدد الوفيات المرتبطة بالتدخين. إلا أن سرطان الرئة يؤدي إلى مفعول مدمر، في بلدنا، الذي يدخن فيه 31.5% من الرجال و3.3% من النساء، حيث أن 90 % من حالات سرطان الرئة ناجمة عن التدخين. كما أن التدخين يعد «مسؤولا عن 25% من حالات القصور التاجي، من ضمنها الجلطات القلبية، ويتبين من تحقيق وطني حول عادات وسلوك المدخنين صدر سنة 2008، أن المدخن المغربي يصرف في المتوسط 22 درهما يوميا لشراء الدخان (30% من الحد الأدنى للأجور)».
لا أحد من ذوي الفطر السليمة والأذواق الرفيعة، ينكر إحدى الحقائق القاسية، التي مفادها أن من سلموا من آفة التدخين، وهم يشكلون نسبة هامة من المدخنين السلبيين ظلما وعدوانا، يضطرون إلى العيش في بيئة صعبة يطبعها الاختناق، ويخيم عليها جو التقزز والغثيان، بسبب ما يقذفه المدخنون من كتل الدخان المحملة بالسم الزعاف، من المقاهي التي تشكل ساحات حرب حقيقية على الصحة العامة، تمارس بمنتهى الاستخفاف والاستهتار ضد الأبرياء، وداخل الأسواق والساحات العامة، والأرصفة والطرقات، حتى إننا لا نجانب الصواب إذا قلنا إننا نعيش وسط وباء حقيقي، تشكل مواجهته ضربا من العبث، في ظل عجز قانون غير مفعل لمنع التدخين في الأماكن العمومية، وفي ظل تحكم شركات رأسمالية شرهة تؤثر تكديس الثروات الفاحشة على حساب مجتمع يتعرض للدمار، ويصاب في مقاتله يوما بعد يوم، ويحق للعقلاء فيه أن يدقوا ناقوس الخطر بلا توقف، وأن يضعوا هؤلاء العتاة، الذين يمارسون عملية القتل والإبادة الجماعية لشعب بأكمله، في قفص الاتهام، ويصدرون في حقهم ما هم أهله من أحكام، فكل القرائن متضافرة على أن ما يقترفه هؤلاء إجرام محض.
وصدق الله تعالى القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (النساء :29)، والقائل سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة: 32 ).
د. عبد المجيد بنمسعود