الـحـذف مـن عـلـوم الـقـرآن وفـنـونـه الـبلـيـغـة


عد الزركشي في كتابه “البرهان في علوم القرآن” أنواع علوم القرآن وعنون النوع السادس والأربعين في ذكر ما تيسر من أساليب القرآن وفنونه البليغة وذكر الحذف في النوع الثاني فقال:
“الأسلوب الثاني الحذف، وهو لغة: الإسقاط، ومنه: حذفت الشعر، إذا أخذت منه .
واصطلاحا : إسقاط جزء الكلام أو كله لدليل، وأما قول النحويين : الحذف لغير دليل، ويسمى اقتصارا، فلا تحرير فيه; لأنه لا حذف فيه بالكلية كما سنبينه فيما يلتبس به الإضمار والإيجاز .
والفرق بينهما أن شرط الحذف والإيجاز أن يكون في الحذف ثم مقدر ; نحو: {واسأل القرية}(يوسف : 82) بخلاف الإيجاز ; فإنه عبارة عن اللفظ القليل الجامع للمعاني الجمة بنفسه.
والفرق بينهما وبين الإضمار أن شرط المضمر بقاء أثر المقدر في اللفظ؛ نحو: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما}(الإنسان : 31) أي : ويعذب الظالمين، {انتهوا خيرا لكم}(النساء: 171) أي : ائتوا أمرا خيرا لكم ، وهذا لا يشترط في الحذف.
ويدل على أنه لا بد في الإضمار من ملاحظة المقدر باب الاشتقاق; فإنه من أضمرت الشيء أخفيته، قال :
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا
وأما الحذف؛ فمن حذفت الشيء قطعته، وهو يشعر بالطرح، بخلاف الإضمار، ولهذا قالوا : “أن” تنصب ظاهرة ومضمرة.
ورد ابن ميمون قول النحاة : إن الفاعل يحذف في باب المصدر، وقال : الصواب أن يقال : يضمر ولا يحذف؛ لأنه عمدة في الكلام.
وقال ابن جني في “خاطرياته” من اتصال الفاعل بالفعل أنك تضمره في لفظ إذا عرفته؛ نحو : قم، ولا تحذفه كحذف المبتدأ؛ ولهذا لم يجز عندنا ما ذهب إليه الكسائي في ” ضربني، وضربت قومك “….
فصل والحذف خلاف الأصل ; وعليه ينبني فرعان : أحدهما : إذا دار الأمر بين الحذف وعدمه كان الحمل على عدمه أولى; لأن الأصل عدم التغيير.
والثاني : إذا دار الأمر بين قلة المحذوف وكثرته ; كان الحمل على قلته أولى.
ويقع الكلام في الحذف من على خمسة أوجه في فائدته، وفي أسبابه، ثم في أدلته، ثم في شروطه ثم في أقسامه.
الوجه الأول في فوائده : فمنها التفخيم والإعظام; لما فيه من الإبهام، لذهاب الذهن في كل مذهب وتشوفه إلى ما هو المراد فيرجع قاصرا عن إدراكه، فعند ذلك يعظم شأنه ، ويعلو في النفس مكانه، ألا ترى أن المحذوف إذا ظهر في اللفظ زال ما كان يختلج في الوهم من المراد، وخلص للمذكور.
ومنها زيادة لذة بسبب استنباط الذهن للمحذوف، وكلما كان الشعور بالمحذوف أعسر كان الالتذاذ به أشد وأحسن.
ومنها زيادة الأجر بسبب الاجتهاد في ذلك ; بخلاف غير المحذوف، كما تقول في العلة المستنبطة والمنصوصة .
ومنها طلب الإيجاز والاختصار وتحصيل المعنى الكثير في اللفظ القليل.
ومنها التشجيع على الكلام; ومن ثم سماه “شجاعة العربية”.
ومنها : موقعه في النفس في موقعه على الذكر; ولهذا قال شيخ الصناعتين عبد القاهر الجرجاني : ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره، ولله در القائل :
إذا نطقت جاءت بكل مليحة
وإن سكتت جاءت بكل مليح ”
…(بتصرف)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>