من مقومات تحقيق السلم الاجتماعي في الإسلام 1/3


عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»(الأدب المفرد للبخاري رقم الحديث 230، والترمذي في سننه رقمه 2346، وقال هذا حديث حسن غريب).

يخبرنا النبي في هذا الحديث الشريف عن ثلاث نعم كبرى؛ وهي الأمن، والصحة، والغذاء. هذه النعم الثلاثة التي من الله تعالى بها على عباده، شكلت أمهات النعم التي أولتها كل الحضارات الإنسانية القديمة والحديثة اهتماما بالغا؛ لذلك وجه الرسول انتباه المسلمين إليها كي يحمدوا الله الكريم المنان عليها ويشكروه.
وأرى أن الوقوف مع هذا الحديث الشريف، يتطلب مني تقسيم الكلام فيه إلى ثلاث نقط أساسية أعتقد أن كل واحدة منها تستحق التأمل والتدبر لأخذ العبر والدروس، ذلك أن الحديث أشار إلى:
أولا: نعمة الأمن بصفة عامة، وفي الإسلام بصفة خاصة، ودورها في بناء مجتمع مستقر ومزدهر.
ثانيا: نعمة الصحة وآثار المحافظة عليها ورعايتها في بناء مجتمع قوي وسليم.
ثالثا: نعمة الغذاء وقيمتها في الاستقرار والسلم الاجتماعيين.
أولا: نعمة الأمن في الإسلام ودورها في بناء الحضارة الإنسانية السليمة:
حيث بدأ الرسول بنعمة الأمن فقال: «من أصبح آمنا في سربه» أي أصبح في ذلك اليوم، وفيه إشارة إلى أن المؤمن عليه ألا يحمل هم المستقبل؛ فإن أمره بيد الله تعالى، وهو الذي يدبر الأمور ويقدر الأقدار، وعليه أن يحسن الظن بربه ويجتهد في العمل.
آمناً في سربه: جاء في تحفة الأحوذي: أن المشهور كسر السين أي في نفسه، وقيل السرب الجماعة؛ فالمعنى في أهله وعياله، وقيل بفتح السين، أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين أي في بيته. ومهما يكن؛ فإن المقصود أن ينعم المسلم بالأمن النفسي والجسدي، أينما حل وارتحل.
فما هي إذا مقومات تحقيق الأمن والاستقرار في الإسلام؟
1 – المقوم الأول: الإيمان بالله جل جلاله، والتوكل عليه:
قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون (النور،55)، فالأمن والتمكن في الأرض ارتبطا بضرورة الإيمان بالله تعالى، ولا شك أن المؤمن لن يكون أبدا مصدر تخويف وترهيب للآخر؛ لأنه يخاف الله تعالى ويرجو مغفرته، كما أن الإسلام حرم عليه إذاية الغير. قال : «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»(البخاري ومسلم).
ثم إن الإسلام حرم ترهيب المسلم غيره بأية وسيلة كان ذلك، قال رسول الله : «لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً»(سنن أبي داود). بل أمرنا الله جل وعلا بعدم تخويف غير المسلمين ما داموا مسالمين ولم يهددوا أمننا، قال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:8).
فالإسلام قصد تحقيق الأمن حتى للحيوان البهيم، عن النبي ، قال: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض»(البخاري ومسلم).
2 – المقوم الثاني: العمل الصالح:
ويبدأ بإقامة الفرائض والمحافظة عليها، فهي تحمي المسلم من أن يعتدي عليه أحد أو يرهبه، ليكون في رعاية الله  وحفظه ما دام طائعا له، كما أنها تجنبه الاعتداء على الناس. فالقيام بالفرائض والواجبات تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ ورأس المنكر ترويع الآمنين، قال تعالى: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر (الحج:41).
إن الاستقرار وتحقيق الأمن باعتبارهما مظهرين للحياة الطيبة، مرتبطان بالإيمان بالله والعمل الصالح، قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97).
فالأمن المبني على توحيد الله تعالى ومراقبته، والإخلاص في العمل ابتغاء وجهه تعالى، عامل أساسي لبناء حضارة إسلامية مزدهرة، إذ به تعمر المساجد، وتطبق شريعة الله تعالى، ويسود العلم، ويقل الجهل، وتجتنب المحرمات، ويعم الحياء، وتنتشر الفضيلة، ويطهر المجتمع من أوكار الخبائث، وتستقيم الحياة ماديا ومعنويا؛ إذ المسلم الذي يتربى على ثقافة الأمن والاستقرار انطلاقا من منهج الوحي، لا يحتاج إلى قانون وضعي بشري يراقبه، ولا إلى رجال أمن يحرسونه؛ لأنه تربى على التلقي من وحي الله جل وعلا الذي يحرم عليه الاعتداء على حقوق الغير.
إن فقدان نعمة الأمن يعني وجود الخوف والرعب؛ لهذا لا نستغرب انتشار الربا في مجتمعنا، لأن الناس يخافون عدم الحصول على بيت، أو سيارة، أو رفاهية، فيقبلون عليها. ولا نستغرب ظهور شركات التأمين التي تنهب أموال الناس الخائفين، الذين يُؤَمّنون على كل شيء، من بيت، وسيارة، وتعليم، وشغل، وسفر… لفقدهم الثقة بالله تعالى وعدم التوكل عليه. فالمعاصي والأمن لا يجتمِعان أبدًا؛ إذ الذنوب تزيل النعم وتوجب حلول النقم. قال تعالى: وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (النحل: 112)
إذ هو أهم وسيلة للحفاظ على الأمن، قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى (النحل:90). بل أمر الله بإقامة العدل ولو على النفس أو على الوالدين أو على الأقارب، وهذا هو أعلى مراتب العدل في الحكم بين الناس. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين (النساء:135).
فالمسلم يعدل مع زوجته ويعطيها حقوقها، فتشعر بالأمن، وتساهم معه بحب ومودة في بناء أسرة مسلمة تخاف الله جل وعلا وترعى حرماته، ويعدل بين أولاده فلا يُفَضِّل بعضهم بهدية أو عطاء، حتى لا يكره بعضهم بعضًا، وتوقَد بينهم نار العداوة والبغضاء، فيكون هو المسؤول عن انعدام الأمن داخل الأسرة التي هي اللبنة الأساس لبناء الحضارة الإسلامية. يقول المصطفى : «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم»(صحيح البخاري).
فالعدل يحفظ الأمن مع كل الناس كافرهم ومؤمنهم، غنيهم وفقيرهم، قويهم وضعيفهم، أبيضهم وأسودهم، رئيسهم ومرؤوسهم، حاكمهم ومحكومهم، والرسول هو مثلنا الأعلى في العدل. فعن عائشة ، أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد ، حِبُّ رسول الله ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله : «أتشفع في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب، ثم قال: إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»(رواه مسلم والبخاري بألفاظ قريبة).
إن اختلال ميزان العدل يؤدي إلى اضطراب كل الموازين، ويكون ذلك سببا في اشتعال نار الفتن بين الناس، فلا أحد يثق في الآخر، نتيجة انتشار الظلم والفساد؛ لهذا نشاهد في عصرنا كيف أن المواطن فقد ثقته في جل المؤسسات العمومية؛ نظرا لتفشي ظاهرة الرشوة، والزبونية، والمحسوبية، فيشعر المرء أنه غير آمن، وأن حقه يسلب منه دون موجب، فينموا في قلبه الحقد والكره تجاه هذه المرافق، وتستمر العلاقة بينهما متوترة، مما يؤدي إلى عدم التعاون الذي يعتبر أهم ركيزة لبناء الحضارة الإسلامية.
فالعلاقات الاجتماعية يسودها الآن الحيطة والحذر؛ فالمسلم لم يعد يثق في أحد، وأين إذن نعمة الأمن في ظل هذا الحذر الشديد من كل شيء وكأننا في حرب مستمرة؟ حيث نفقد الأمن في سيارة الأجرة، وفي الحافلة، وفي الحي الذي نسكنه… لماذا كل هذا الخوف والاضطراب؟ إنه غياب العدل. فلا أمن في سرب مع غيابه، ولا خوف مع حضوره.
4 – المقوم الرابع: العلم:
إذ الجهل أخطر سلاح لزعزعة الأمن وهدم الحضارات، قال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9). فالجاهل لا يعرف مصلحته ولا مصلحة وطنه، وبالتالي يمكن تعبئته من طرف أي جهة لإثارة الفتن والاضطراب. لهذا نرى ونسمع أن أفرادا يفجرون أنفسهم باسم الجهاد وهم عنه بعيدون كل البعد، فهم يزهقون أرواحا ويسفكون دماء بريئة، وقد حرم الإسلام القتل وجعله من أبشع جرائم المجتمع.
والعلم العاصم من هذه الفتن هو العلم الشرعي بالدرجة الأولى؛ إذ به يعرف الإنسان حقوقه وواجباته تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، وهو الذي إذا أخذ من مصدره ومن أهله وبشروطه يحصن المسلم، ويربي فيه خلق الرقابة الذاتية التي تمنعه من ارتكاب المحظور؛ لأنه يعلم يقينا أن الله جل جلاله يراقبه.
لهذا نحن بحاجة إلى مهندس، وطبيب، ومقاول، ومدير، ووزير، وكل مسير للشأن العام لأن يكون عالما وعاملا بكتاب الله تعالى وسنة نبيه ، قائما بحدودهما، ممتثلا للأوامر والنواهي؛ لأنه لا عبرة بعلم لا يتبعه عمل، ولا تحقق لا يتلوه تخلق.
لهذا السبب أقول إذا أردنا أن نكون آمنين في سربنا فإنه يجب الاهتمام بالدراسات الشرعية في المؤسسات التعليمية والتربية عليها؛ لأنها تربي المسلم على القيم النبيلة، وتُكَوّن له شخصية إسلامية متزنة تحب الله تعالى ورسوله ، وتحب أن تخدم عباد الله تعالى، وتساهم بإخلاص في بناء الحضارة الإسلامية الراقية. وبذلك تُحاز إلينا الدنيا كما أخبرنا الرسول في الحديث.
يتبع

ذ.محمد البخاري