معالم الرقي الحضاري في السنة النبوية (5)


الرقي الحضاري في مجال السلوك الاجتماعي والأخلاق العامة

 

1 – الرقي الحضاري في معاملة الزوجة:

تبدأ العشرة الطيبة مع الزوجة بمبادلتها الحب والمودة واحترام شخصيتها وإكرامها والعفو عن زلاتها وقد قال : «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر».

يتجلى الرقي الحضاري في العشرة الزوجية في أجلى مظاهره في معاملة الرسول  لزوجاته، وخاصة مع أصغرهن سنا، عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها التي فسح لها المجال في الترفيه عن النفس في مواقف عدة فضلا عن العشرة الطيبة والعفو عند الغضب ومناداتها بأحب الأسماء إليها، وتدليلها بقوله لها «ياعائش» وغير ذلك من المواقف.

وقد أجمل الرسول  العشرة الطيبة في قوله : «خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهلي» (1) ومما سنه   في العشرة الطيبة -ولم يكن مألوفا لدى العرب- استشارة المرأة والأخذ برأيها، كما سبق أن ذكرنا في استشارته لأم سلمة رضي الله عنها، لما تلكأ الصحابة في نحر هدايا هم للعمرة في الحذيبية. فأشارت إليه  بأن يبادر هو بنحر هديه  ففعل، وكان خيرا،

وعلى هديه في إكرام الزوجة  سار الصحابة رضوان الله عليهم، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يقول: “إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة، لأن الله تعالى يقول:  وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (البقرة: 228)، قال: وما أحب أن أستنطف أي: أستقصي وأستوفي حقي عليها، لأن الله تعالى يقول: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ”(2).

2 – الرقي الحضاري في معاملة الجيران:

معاملة الجار في شريعة الرسول  معاملة إنسانية وأخلاقية راقية امتاز بها الإسلام، حيث أكد القرآن الكريم والسنة النبوية على حقوق الجار في عدد من الآيات والأحاديث. كقوله تعالى: وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى المساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل (النساء: 36).

وقول الرسول  فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» (3).

وروى أبو هريرة عن النبي  قال: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل يا رسول الله من؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه»(4)، وفي رواية للإمام مسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه».

والجار إما أن تكون له ثلاثة حقوق إن كان مسلما ومن ذوي القرابة، وإما أن يكون له حقان إذا كان جارا مسلما، وإما أن يكون له حق الجوار إن كان غير مسلم…

وأهم حقوق الجار؛ الإحسان إليه، وكف الأذى عنه، وتفقده، وإعانته في حاجته وعيادته إذا مرض، وثبت أن الرسول  عاد شابا يهوديا كان جارا له  وهو في مرض الموت ودعاه إلى الإسلام لأنه يحب له الخير، فعنْ أَنَسٍ  قَالَ: “كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ ، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ  يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: «أَسْلِمْ !!» فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ أبوه: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ  وَهُوَ يَقُولُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ».(5)

لكن حال الجوار بين المسلمين في هذا الزمان يندى له الجبين، فما أكثر الذين يِؤذون جيرانهم!!، إما برمي الأزبال، أو وبالصخب والإزعاج خاصة عندما يزعمون أنهم في فرح عرس فيصكون آذان الجيران بالأغاني الصاخبة التي لامعنى لها ولا فائدة إلا إرضاء الشياطين وأهواء أتباعهم…

3 – الرقي الحضاري في آداب التعارف الإنساني  ويشمل:

أ – التعايش والتسامح مع عموم الناس:

إن الإسلام يقر التعايش والتسامح بين الناس مسلمهم وكافرهم، وأدل دليل على ذالك تأكيده على التعارف الإنساني وإقرار مبدأ الأخوة في الانتساب البشري لآدم ، وذلك في مثل قوله تعالى: يايها الناس إنا خلقنكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا وقبائل لتعارفوا … (الحجرات : 13).

وهذا فيه مساواة في القيمة الإنسانية وفي أصل البشرية، وفيه دعوة للتعارف وتبادل المعارف العلمية  والخبرات، وكذا تبادل أفعال الخير والمعروف، و التعاون على تكاليف ومتاعب الحياة، بل التعاون والتناصح في شأن الدين أمر واجب على المسلم تجاه أخيه في الإسلام، وتجاه أخيه في الإنسانية، فمن أحب الخير لغير المسلم دعاه إلى الإسلام وليس العكس.

ثم بين الله تعالى في نفس السياق معيار الأفضلية (أي التقوى) في قوله تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم نفس الآية، والتقوى لاتكون إلا بالعلم والإيمان، والناس لايستوون فيهما ولا في العمل الصالح عموما، لذلك فمن العدل تمييز الناس بأعمالهم وجهادهم في الدين والدنيا، إذ لامعنى للمساواة المطلقة بين الناس في الحقوق، مالم يستووا في الواجبات، قال تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (الزمر: 9).

والتعايش والتسامح مع الآخرين يقتضي:

- عدم الاعتداء على حقوق الآخين في: دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

- واحترام كرامتهم ، وتبادل الهدايا معهم،

- عدم إظهار التفوق عليهم أوالتعصب ضدهم… إلى غير ذلك مما يثير البغض والعداوة بين الناس.

والتسامح يعني أيضا الوعي  بأن الناس خلقهم الله مختلفين في طبائعهم وأمزجتهم وأذواقهم وثقافاتهم كما هم مختلفون في في أجناسهم ولغاتهم، والاختلافات هذه مدعاة للتعارف وتبادل المنافع بدل التباغض والتقاتل.

وتاريخ الحضارة الإسلامية وإلى يومنا الحاضر أكبر شاهد على تسامح المسلمين مع أهل الديانات الأخرى خاصة مع اليهود والنصارى الذين تربطهم بالمسلمين روابط شتى تاريخية وجغرافية وعرقية (كالعرب المسيحيين مثلا)، فالرسول  ساكن اليهود في المدينة وعاملهم اقتصاديا واجتماعيا بأخلاق حضارية عالية ولم يأمر بإجلاء اليهود من المدينة إلا حين غدروا بالمسلمين ونكثوا العهود مع الرسول ، وتحزبوا مع أعداء المسلمين من القبائل والأحزاب…

أما عندما يكونون معاهدين وتحت الذمة فلهم حقوق مشرفة لم يحظوا بها في حضارة الفرس ولا الرومان بل ولا في عصر الأنوار التي يفتخر بها العلمانيون الآن.

وقد كانت مواقف عمر بن الخطاب  مع نصارى أهل الشام والقدس مما يفتخر به المسلمون في مجال التسامح مع غير المسلمين، واشتهرت قصته مع اليهودي العجوز الذي وجده يتسول فقال قولته المشهورة: “مَا أَنْصَفْنَاكَ أَنْ كُنَّا أَخَذْنَا مِنْكَ الْجِزْيَةَ فِي شَبِيبَتِكَ ثُمَّ ضَيَّعْنَاكَ فِي كِبَرِكَ: ثُمَّ أَجْرَى عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مَا يُصْلِحُهُ”.(6).

وعلى نهج عمربن الخطاب سار ولاة المسلمين من بعده ،  كما عرف ذلك في عهد صلاح الدين الأيوبي وغيره.

ب – التسامح والتآخي بين المسلمين:

والتسامح مع الإخوة في الدين (بين المسلمين) يقتضي أكثر من الاحترام وحفظ الحقوق وكف الأذى، إلى أن يستشعر المسلم المودة مع أخيه المسلم، فيحب له مايحب لنفسه ويسعى في خيره ودفع الأذى  عنه، ومشاركته في أفراحه وأتراحه، فينفس عنه كربته ويقضي له ما استطاع من حاجاته، لأن المسلمين في توادهم وتراحمهم  كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى كما قال ، وليس التحضر في غض الطرف عن الجيران وعدم الاهتمام بشؤون إخوانه المسلمين، كما يظن البعض متذرعا بالوقار وبعدم التدخل في شؤون الآخرين، حتى إننا نرى من يعامل الأجانب بلطف وآداب وإخوانه المسلمين بفظاظة وسوء أدب مع الأسف الشديد، مخالفا قول الله  تعالى في شأن الصحابة وعموم المؤمنين: أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح : 29).

والتسامح مع الإخوة في الدين يقتضي عدم التعصب للمذاهب والآراء إلى درجة تكفير المسلم لأخيه المسلم والمعاداة والتقاتل بين المسلمين.

بين التسامح والتميز:

وتسامح المسلم مع غير المسلمين لا يعني تساهله المطلق وتنازله عن عقيدته، أوتقبل الظلم الاجتماعي والعنصري الذي يبديه البعض تجاه المسلمين، بل التسامح يعني: أن الفرد حر في التمسك بمعتقداته كما الآخرون أحرار في التمسك بمعتقداتهم، والمسلم انطلاقا من عقيدته يقتنع أن دينه هو الدين الصحيح الذي ارتضاه الله للبشرية كلها، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه (آل عمران: 84).

والاعتزاز بالإسلام  يحق لكل من دخل في دائرته  بالنطق بالشهادتين اعتقادا بهما -مهما كان عرقه أو جنسيته- لأن الاعتزاز بالدين ليس من قبيل العصبية العرقية أو الجنسية -، بل بالإيمان بخالق الكون والناس أجمعين ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين (المنافقون: 8).

ويحق للمسلم ان يتميز بقيم دينه وبشريعته تميزا إيجابيا لايحمل أي إشارة عدوانية للآخرين بل هو تمسك بقيم حضارته ودينه، وهي قيم إنسانية مثالية، هي التي تستحق أن تكون قيما كونية يقتدي بها كل الناس شرقا وغربا، لما فيها من خير محض لكل الناس، وتميز المسلم  بقيمه الدينية الحقة، (وليس العادات العربية أو الفارسية  أو غيرها)  هو الذي يكفل له الحصانة  والسلامة لشخصيته وأخلاقه من التبعية غير الواعية والانبهار المفرط بمظاهر الحضارة العلمانية المنحلة، كما قال أحد الباحثين: “حتى لا نتبع غيرنا دون وعي شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؛ فننتهي كما انتهوا إلى مستنقعات آسِنَة ودرَكات هابِطة؛ كالزواج المثليِّ، و”تجريم” الحياء والاحتشام، وازدراء الأخلاق والأسرة، والطهر والفضيلة، وإزاحة الدين من الحياة، وقد انتهى الغرب إلى ما هو عليه بالانسلاخ التدريجي من شخصيَّته، وهو ما نخشاه على أنفسنا “مع الحذر ومقاومة  تلك الأمراض المبطنة والسموم المرسلة في المنتجات التقنية والمادية خاصة في وسائل التواصل المنتشرة بين الشباب والتي تحمل فيروسات تنخر أجسادنا وشخصيتنا الأخلاقية والمعنوية، والتي تعمل على إماتة خلايا نسيجنا الفكري والعاطفي الديني،  لننصهر في الصبغة اللادينية الغربية ، لأن أكثر مايثير خصوم الأمة العربية والإسلامية هو الصبغة الربانية -المتبقية- والتي تصطبغ بها بعض مظاهر حياتنا الاجتماعية والأسرية”(8).

د. محمد البوزي

———————-

1 – صحيح سنن الترمذي رقمه فيه : 3057.

2 – مصنف ابن أبي شيبة والبيهقي في الكبرى.

3 – متفق عليه.

4 – متفق عليه، والبوائق: الشرور والآثام والإيذاء.

5 – البخاري وأحمد غيرهما.

6 – أحكام أهل الذمة لابن القيم تحقيق أبو براء يوسف بن أحمد البكري.

7 – عبد العزيز الكحيل مقال ( تميز المسلم) منشور في موقع الألوكة.

8 – نفسه بتصرف.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>