افتتاحية - حاجة المسلمين لفقه الميزان والفرقان قبل فقه الوقائع


الوقائع هي الأحداث والنوازل التي تحدث للناس وتنزل بهم، وكثيرا ما يرافق حدوثها صدمة تسبب هزة ورجة في النفوس يفقد بسببها الناسُ الثباتَ، ويساورهم الشك والارتياب فيما لديهم من الحق والصواب.

والوقائع أنواع منها فردي ومنها جماعي، ومنها ما يحل بدولة واحدة ومنا ما يعم دولا وأمما وشعوبا، ومنها ثقيل الوقع ومنها خفيفه، ومنها ما يصيب الكليات والأصول ومنها ما يصيب الجزئيات والفروع…؛ ولذلك كلما كانت الأحداث كلية وأكثر عمومية كانت آثار وقعها كبيرة.

وفي زمننا هذا أصبح الواقع المحلي والعالمي واقعا متسارع الأحداث، متشابك العلاقات، خفي العلل والمسببات، وكثيرا ما يذهل الناس عن الخفي ويجرون وراء الظاهر الجلي فيصدق فيهم قول الله تعالى: وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (الروم: 6 – 7).

وإن من الواجب على المسلم أن يكون له ميزان للإبصار وفرقان يميز به الهدى من الضلال؛ إنه ميزان القرآن وسنة النبي العدنان لأنه لا ميزان حقا إلا هدى الله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى (البقرة: 120) ولا نور حقا يستضاء به إلا نور الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (النور: 40) والاهتداء بهذا الميزان والنور هو الذي يورث الفرقان في التصور والتصرف، إنه ميزان يقوم على الموازين الآتية:

أ- ميزان الإيمان بأن الله تعالى وحده الذي يدبر ملكه بعلمه وحكمته:

لأن الله تعالى هو الفاعل المختار، وأن الإنسان مهما بدا قادرا على تغيير ملك الله تعالى فإنما هو فاعل بإذن الله تعالى، فلا يقع في ملك الله جل وعلا شيء إلا بعلمه وإذنه وحكمته.

ب- ميزان اليقين في القدرة والنصرة:

قدرة الله القاهرة فوق كل الخلائق، وقدرته على نصرة أوليائه عند الشدائد والمضايق، وهو يقين يجعل المسلم يزن كل ما يجري أمامه من أحداث ظاهرة يُصَور فيها الباطلُ منتصرا وأهلُه ظافرين، ومعهم الكثرة الكاثرة مسحورة، إنما هي مجرد جولة تُعْلم أن الله فوق سماواته يرقب ملكه، ويدبر من النتائج خلاف ما تجري به الظواهر، وَعَد -ووعده لا يخلف-  بأنه ناصر عبادَه، وأوعد –ووعيده صادق- أنه قاهر أعداءَه، قال جل وعلا: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (الأنبياء: 9)، إنه يقين الشعور بمعية الله تعالى وولايته: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(الشعراء: 61 – 62)، إنه ميزان الإبصار والاستبصار الذي صنع اللهُ تعالى به على عينه رسلَه وأنبياءَه، وهو المعيار الذي ربى عليه الأنبياء المؤمنين، وبه أنشأ الرسول  الجماعة المؤمنة الأولى وقوَّم نظرَها وسدد عملَها.

ج- ميزان الابتلاء:

إذ يجب الإيمان بأن كل ما يُعطاه المسلم إنما هو ابتلاء محض؛ وهي قاعدة في البناء التربوي جليلة، تجعل المسلم ينظر للأحداث بميزان رباني؛ فالإنعام ابتلاء يستوجب القيامَ بشكره وأداءَ حق أمره وتقديرَ الله تعالى حق قدره، وسلبُ نعم التمكين ابتلاءٌ أيضا يستوجب الاجتهاد في تحصيل أسباب القرب والولاية والقيام بحقوق الله والعباد والحدب عليها والرعاية. وكل من الهزيمة والنصر مجرد ابتلاء؛ وهو -لعمري- ميزان في الفهم يقي المسلم مصارع الزهو والعتو والاستكبار كما يدرأ عنه عواقب العجز والكسل والانكسار.

إن الإيمان بسنة الابتلاء والتمحيص يكسب المسلم توازنا في شخصيته، وسلامة في رؤيته، واستقامة في سلوكه، وفاعلية بانية لأمجاد أمته.

د- ميزان العمل وتعاطي الأسباب دون استعجال النتائج:

لأن العباد منوط بهم العمل وتعاطي الأسباب، والله تعالى يتولى النتائج، لذا فليس للعبد استعجالها. فالعمل قاعدة الحياة وأساس العمران، وما دونه ليس إلا الموت والخراب، والعمل روح الإيمان وجوهره، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، وبالعمل يتمايز العباد عند الله تعالى ويتفاضلون. وإن العمل الذي يرفع الله به الإنسان والأمة إلى مقام الإمامة والشهادة له صور ووجوه منها:

- العمل الصالح الذي به تحفظ الكليات الخمس وبه لا بغيره تصان حقوق الله وحقوق العباد.

- الإعداد والتخطيط في كل المجالات والمستويات.

- العمل بالأولويات، لأن الأعمال ليست على وزان واحد، فمنها الكلي الذي يتقدم على جزئه، ومنها الأصل الذي لا يقدم عليه فرعه، ومنها العام الذي يرجح على الخاص…

وإن فقه موازين العمل من شأنه أن يكسب المسلمين فرقانا في التفكير والتعبير والتدبير يقي من الخطل والزلل، ويحقق السُّؤْلَ والأمل.

وصدق الله العظيم حين قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا (الأنفال: 29)، وقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ (الحديد: 28)، فالفرقان نور وبيان يوضح كل ما التبس ولم يتميز فيه الخير من الشر، والهدى من الضلال، والحق من الباطل… وكل من الفرقان والنور من الله تعالى ولا يُنالان إلا بتقواه والعمل بسننه الربانية وتوجيهاته الشرعية فعلا في الواقع، وفهما لما يجري فيه من الوقائع، وارتقاء بالأمة لأحسن المواقع.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>