اللغة العربية لغة القرآن الكريم: مباني ومعاني 2 – أصالة الحرف في بناء دلالة الكلمة (3)


قدمنا في الحلقة الماضية (2) في المحجة عدد 479 نظرة موجزة عن ترتيب أحرف المباني حسب مخارجها عند الخليل، وختمنا بفقرة لابن جني من كتابه سر صناعة الإعراب ينتقد فيها ترتيب الخليل لأحرف المباني، وواعدنا بمناقشة نقد بن جني للخليل في هذا المجال. وذلك ما سنعالجه في هذه الحلقة بإذن الله تعالى وتوفيقه.

ذكرنا في الحلقة الأولى(1) من المحور الثاني(2) في المحجة عدد الحروف التي ذكرها الخليل. ورأينا أن هذا العدد تطور بحروف فروع عند سبويه، بيد أن ترتيب الخليل للحروف الأصول غير ترتيب سيبويه، ومن سار على نهجه، وهذا ما لفت انتباه بن جني لينتقد الخليل في هذا المجال، ولذا نذكر أحرف المباني الأصول كما هي مرتبة عند سيبويه ثم ما قاله بخصوصها وبغيرها لأجل المقارنة بينه وبين ما قاله الخليل في علاقة وظائف أحرف المباني ببنية الكلمة قبل التعقيب في نهاية هذه المقارنة على ما قاله ابن جني في اعتماد ترتيب سيبويه لنقد ترتيب الخليل. يقول سيبويه: بعد العنوان «هذا باب الإدغام»: “هذا باب عدد الحروف العربية، ومخارجها، ومهموسها، واختلافها:

1 – فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا:

الهمزة، والألف، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، والكاف، والقاف، والضاد، والجيم، والشين، والياء، واللام، والراء، والنون، والطاء، والدال، والتاء، والصاد، والزاي، والسين، والظاء، والذال، والثاء، والفاء، والباء، والميم، والواو” (ك4/ 431).

2 – وبعد عرضه للأحرف الفروع يقول: “ولحروف العربية ستة عشر مخرجا. فلِلْحَلق منها ثلاثة: فأقصاها مخرجا الهمزة والهاء والألف. ومن أوسط الحلق مخرج العين والحاء. وأدناها مخرجا من الفم: الغين والخاء. ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف. ومن أسفل من موضع القاف من اللسان قليلا ومما يليه من الحنك [الأعلى] مخرج الكاف.

ومن وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك الأعلى مخرج الجيم والشين والياء. ومن بين أول حافة اللسان وما يليها [وما يليه] من الأضراس مخرج الضاد. ومن حافة اللسان من أدناها إلى منتهى طرف اللسان ما بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى وما فويق الثنايا مخرج النون.

ومن مخرج النون غير أنه أدخل في ظهر اللسان قليلا لانحرافه إلى اللام مخرج الراء.

ومما بين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء، والدال، والتاء.

ومما بين طرف اللسان وفويق الثنايا مخرج الزاي، والسين، والصاد. ومما بين طرف اللسان، وأطراف الثنايا مخرج الظاء، والذال، والثاء. ومن باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العلى [العليا] مخرج الفاء.

ومما بين الشفتين مخرج الباء، والميم، والواو” (ك 1/433).

3 – وفي سياق عرضه لصفات الحروف مع ذكر عدد كل منها كالمهجورة، والمهموسة، والشديد، والرخوة، والمنحرف، والمكرر وبين بين، يختم كلامه في هذا السياق بقوله:

أ – “ومنها (اللينة) وهي الواو والياء؛ لأن مخرجهما يتسع لهواء الصوت أشد من اتساع غيرهما كقولك وأي، والواو [وهو حرف لين] وإن شئت أجريت الصوت ومددت.

ب – ومنها (الهاوي) وهو حرف اتسع لهواء الصوت مُخْرَجُه أشد من اتساع مُخرج الياء، والواو؛ لأنك قد تضم شفتيك في الواو، وترفع في الياء لسانك قبل الحنك، وهي الألف.

ج – وهذه الثلاثة [الواو، والياء، والألف] أخفى الحروف لاتساع مُخرجها: وأخفاهن وأوسعهن مُخرجا: الألف، ثم الياء، ثم الواو” (ك 4/ 435-436).

4 – وعندما أنهى سيبويه الحديث عن صفات حروف المباني قال: “وإنما وصَفتُ لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك ولا يجوز فيه، وما تبد له استثقالا كما تدغم، وما تخفيه وهو بمنزلة المتحرك” (ك 4/ 436).

تعليق وملاحظات:

نعقب على هذه النصوص التي أوردناها لسيبويه في هذا الموضوع بما يلي:

1 – أ- عرض سيبويه أحرف المباني حسب ترتيبه بواو العطف (و) وهي لمطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، بمعنى أنها لا تفيد الترتيب بين الاسمين اللذين بينهما بأن تكون رتبة ما قبلها قبل رتبة ما بعدها. وفي هذا يقول الزمخشري -على سبيل المثال لا الحصر-: “(فصل) فالواو للجمع المطلق من غير أن يكون المبدوء به داخلا في الحكم قبل الآخر، ولا أن يجتمعا في وقت واحد؛ بل الأمران جائزان، وجائز عكسهما نحو جاءني زيد اليوم وعمرٌ أمس، واختصم بكر وخالد، وسيان قعودك وقيامك، وقال الله تعالى: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم (البقرة: 58)، وقال: وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا تغفر لكم خطيئاتكم (الأعراف: 161). والقصة واحدة. وقال سيبويه: “ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون أولى بها من الحمار كأنك قلت مررت بهما” (المفصل في علم العربية 304).

هكذا يتضح أن العطف بحرف الواو لا يفيد الترتيب بين الاسمين اللذين يربط بينهما، وقد ذكر سيبويه أحرف المباني التاسعة والعشرين وهو يربط بينهما بحرف الواو من ثاني حرف مذكور وهو الألف بعد الهمزة إلى آخر حرف ختم به وهو الواو معطوفا على ما قبله الذي هو الميم!

1 – ب- نلاحظ أن سيبويه بدأ ترتيب الحروف بالهمزة، وثنى بالألف، وثلث بالهاء بعدها العين… ثم ختم بالأحرف الأربعة التالية مرتبة حسب ما ذكرنا لها عنده هي الفاء، الباء، الميم، الواو. (ك 4/ 431).

ويقول بخصوص تأكيد ترتيب الأحرف الثلاثة المبدوء بها -كما أوردناه في الملاحظة رقم (2)-: “فللحلق منها ثلاثة، فأقصاها مخرجا: الهمزة والهاء والألف” (ك 4/ 433).

وفي الترتيب الإجمالي لحروف المباني عند سيبويه في ص 431 من الجزء الرابع نلاحظ أن الألف في الدرجة الثانية بعد الهمزة عكس ما نلاحظ في النص أعلاه الذي نص فيه على مُخرج هذه الحروف حيث نلاحظ الهاء في الدرجة الثانية بعد الهمزة، ولعله خطأ في الطبع أو النسخ والله أعلم.

ويلاحظ بخصوص الأحرف الأربعة الأخيرة أنها مكونة من جنسين من الحروف: ثلاثة صحيحة هي الفاء، الياء، الميم، وحرف علة هو الواو. وسنعود إلى مناقشة هذه الملاحظات مقارنة بما ورد بخصوصها عند الخليل، بعد إنهاء الحديث عن الملاحظتين (3) و(4)في الحلقة المقبلة إن شاء الله تعالى.

د. الحسين كنوان

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>