يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر


الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.

عباد الله، تمر الأيام بعد الأيام ويمضي العام تلو العام، تمضي الأوقات بسرعة وكأنها لحظات، نودع ونستقل ثم نستقبل لنودع، إنها فترات من الزمن قصيرة، وأيام من العمر قليلة، فهنيئا لمن ملأها بالأعمال الصالحة وشغل نفسه بالعبادات النافعة.

تعلمون معشر الصالحين أن كل الشهور عند المؤمن مواسم للعبادة، وأن عمر المسلم كلَّه موسمٌ للطاعة، لكن الله  فضل بعض الشهور على بعض، كما فضل بعض الرسل على بعض، فبتفضيل شهر رمضان تتضاعف همة المسلم لفعل الخيرات، ويقوى نشاطه لممارسة العبادات، كيف لا وهو يعلم أن ربه سبحانه وتعالى يضاعف له الثواب، ويمحو عنه الذنوب المستوجبة للعقاب.

روى الإمام الترمذي رحمه الله أن رسول الله  قال: «إذا كان أول ليلة في شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومَرَدَة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يُفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاء من النار وذلك كل ليلة»، والحديث أيضاً عند ابن ماجه وابن خزيمة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع -يرحم الله الجميع-.

يقول عليه الصلاة والسلام: «وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر».

“وينادي مناد”: قيل يحتمل أنه ملك، أو المراد أنه يلقي ذلك في قلوب من يريد الله إقباله على الخير، ومعنى “يا باغي الخير”: أي يا طالب العمل والثواب “أقبل”، أي أقبل على الله وطاعته بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال أي تعال. “ويا باغي الشر أقصر”، أي يا مريد المعصية أمسك عن المعاصي، وارجع إلى الله تعالى، فهذا أوان قَبول التوبة وهذا زمانُ استعداد طلب المغفرة.

أيها المسلمون، الخير هو العمل المَشروع الذي يقوم به المسلم ابتغاءَ وجه الله، دون انتظار الجزاء أو الشّكر من الناس. لاَ نُريد منكُم جَزَاءً ولا شُكوراً (الإنسان: 9)، وقد أمر الله عباده بالدعوة إلى الخير والمسارعة فيه. قال : وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (آل عمران: 104).

والخير أنواع وأوجه وأشكال، ومن تعذر عليه نوع سهلت عليه أنواع، فيا باغي الخير أقبل. الإحسان إلى الوالدين من أوجه الخير، إكرام الزوج والأولاد من أوجه الخير، فيا باغي الخير أقبل. الصّدقة على الفقير والمسكين من أوجه الخير، تعهد الأرامل واليَتامى وتفقّدهم من أوجه الخير، فيا باغي الخير أقبل. حسن التّعامل مع الجار من أوجه الخير، إماطة الأذى عن الطّريق من أوجه الخير، والإصلاح بين المتخاصمين من أوجه الخير، فيا باغي الخير أقبل. عيادة المريض وزيارة الأحباب من أوجه الخير، صلة الأرحام من أوجه الخير، فيا باغي الخير أقبل. قراءة القرآن وحضور مجالس العلم والوعظ والإرشاد من أوجه الخير، قيام الليل بعد المحافظة على الصلوات المفروضة من أوجه الخير، فيا باغي الخير أقبل. ووجوه الخير والمعروف أكثر من أن تحصى.

لقد عدَّ الله سبحانه وتعالى عمل الخير والمُسارعةَ فيه من صفات الأتقياء، حيث قال سبحانه بعد ذكر أوليائه: أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (المؤمنون: 61).

إن من فوائد أعمال الخير نيل رضا الله ، بل هذه أهم فائدةٍ تَنتج عن عمل الخير، فعمل الخير يرفع درجات المُؤمن ويجعله قريباً من الله . فيا باغي الخير أقبل.

ومن فوائده أيضا أنه يُكسب فاعلَه قلوب العباد ومَحبّتَهم. ففي مجتمع يقل فيه التكافل ويكثر فيه الهجر يكون عمل الخير سببا في تعزيز قِيَم المَحبّة والتّكافل وفي تقوية الترابط والتّماسك، يمشي المسلم في حاجة أخيه، ممّا ينتج في القلوب المحبة ويزيل الحقد والشّحناء والكراهية، قال : «أحب الناس إلى الله أنفعهم»، فكلما اتسعت منفعتك لعباد الله كان أجرك أكثر ففي الحديث: «وأحب الأعمال إلى الله  سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربةً، أو تقضيَ عنه ديناً، أو تطردَ عنه جوعاً»، يقول: «ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليِّ من أن أعتكف في المسجد شهراً» الحديث حسنه الألباني رحمه الله.

يا باغي الخير أقبل، اعلموا رعاكم الله أن المسارعة إلى الخير سببٌ لتفريج الكروب وستر العيوب، ففي الحديث عن أبي هريرة  عن النبي  قال: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.

وإذا كان العبد في حاجة إلى الاستجابة لدعائه فليعلم أن من فوائد المسارعة إلى الخير، قبول الدعاء، قال تعالى: وَزَكَرِيَّاء إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(الأنبياء: 89 – 90).

الخطبة الثانية:

ويا باغي الشر أقصر،

تجتهد وسائل الإعلام في جميع الأوقات وعلى سبيل الخصوص في وقت الإفطار لتَبُثَّ أكثر البرامج جذبا وتشويقا وهي تعتبر هذا وقت الذروة، وقد تجد في ما تَبُثه ما يفسد الأخلاق أو يخرب العقائد، وإذا خلا من ذلك كله فإنه يفوّت على المؤمن اغتنام وقت ثمين قال فيه الرسول : «إنّ للصائم عند فطره دعوةً ما ترد»، (ابن ماجه).

يا باغي الشر أقصر، في هذا الشهر الفضيل نجد الكثير من الناس يعيشون على أعصابهم، في قلق مستمر واضطراب شديد، قد يكون ناتجاً عن سبب أو بغير سبب، أما سمعوا قول الرسول : «ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضا يوم القيامة»، (الحديث حسنه الألباني).

من واجب المسلم أن يحرص على تنظيم وقته في هذا الشهر المبارك، ولا يجوز له أن يضيع على نفسه فرص كبيرة، فعليه أن يكثر من الخير والعمل الصالح .

يا باغي الخير اعقد العزم على أداء الصلاة في المسجد مع الجماعة ومع الإمام الراتب، اجتهد من أجل ختم كتاب الله  تلاوة وترتيلا، كذا في الفهم والمراجعة والحفظ.

يا باغي الخير حافظ على صلاة القيام في هذا الشهر العظيم، ولا تغفل عن الإحسان إلى الوالدين. يا باغي الخير أنفق من مالك على الفقراء والمساكين، أنفق من وقتك في مجالس العلم وكن من المتعلمين.

وبعد ـ أما آن لهذه القلوب أن ترفرف في فضاء الإيمان! أما آن لهذه الأرواح أن تسبح في رحاب القرآن! أما آن لهذه النفوس أن تحدث التغيير في رمضان! نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصائمين القائمين حقا وصدقاً، إن ربي سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

د. الوزاني برداعي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>