مع سيرة رسول الله – السرية في السيرة النبوية


لقد أوصى رسول الله  بضرورة الاستعانة بالكتمان على قضاء الحوائج؛ حيث قال عليه السلام: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان» (رواه الطبراني في الثلاثة). ولعل سيرته  مليئة بكثير من مواقف الامتثال لهذه الوصية.

لقد أخبر الله تعالى في كتابه بكثير من مواقف الكتمان التي كان لها الآثار المحمودة على أصحابها من ذلك قول الله تعالى على لسان نبيه يعقوب: يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا (يوسف: 5)، وقوله تعالى: وقال رجل مومن من آل فرعون يكتم إيمانه (غافر: 28)… ولا يخفى على ذي لب أنه بالكتمان يستطيع أن ينجز أكثر مما يصبو إليه بعكس ما إذا كان يفشي أسراره؛ لأنه يعيش داخل مجتمع في أخيار وفيه أشرار، وكل منهم يفعل فعله ويقوم بواجبه، فإذا فتح الباب للأشرار آذوه بشرهم وحالوا بينه وبين مراده خصوصا إن كان فيه مصلحة له ولقومه. ولذلك فكلما كان الإنسان كتوما استطاع أن يحقق أهدافه في أمان تام.

لقد كان من بين أسرار نجاح الدعوة الإسلامية اعتماد قائدها  على كتمان أسرارها في كثير من الأحايين والمواقف نذكر منها:

أولا: سرية الدعوة منذ بدايتها (المرحلة السرية)

لما بعث  أمره تعالى أن يدعو الناس إليه سرا لا جهرا، وفي ذلك حكم كثيرة، فلو بدأت الدعوة علنا لماتت قبل رشدها، فكان  يدعو من يثق به من أصحابه سرا إلى عبادة الواحد الأحد، واتخذ بيت الأرقم بن أبي الأرقم مكانا سريا لا تعرفه قريش لتعليم مدعويه تعاليم الإسلام السمحة، ومن أبرز المواقف في هذا المقام: دعوته لعي بن أبي طالب  حين رآه يصلي هو وخديجة رضي الله عنها وسأله ما هذا؟ قال: «دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى». فقال علي: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب. فكره  أن يفشي سر الدين قبل أن تقوى شوكته، فقال له: «يا علي إن لم تسلم فاكتم»، فامتثل  للأمر وأخفاه على أبويه، وفي اليوم الموالي أتى النبي  وأعلن إسلامه. وقد أثر عنه  القولة الشهيرة: “سرك أسيرك، فإن تكلمت به صرت أسيره”.

واستمرت الدعوة السرية ثلاث سنوات حتى إذا اشتدت شوكة الإسلام وقوي عودها، أمره تعالى بالجهر بها، قال تعالى: فاصدع بما تومر (الحجر: 94).

ثانيا: سرية الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة

إن هجرة الرسول  لتمثل أعظم الدروس في السرية والكتمان، فعندما أذن له تعالى بالهجرة أعد العدة وأحكم الخطة وأخذ الحيطة والحذر، فكان كما قال  مؤمنا كيسا فطنا، حرصا منه على حماية الدعوة بعدما اشتد الضغط عليها في مكة.

والمطلع على أحداث الهجرة يدرك أنه  قد أحاطها بسرية تامة، تجلى ذلك في جل أحداثها بدءا بإخفائها على قريش وعلى أقرب المقربين إليه، ثم اختيار وقت الهجرة وهو وقت الهزيع الأخير من الليل حتى لا يراه أحد، واستئجاره دليلا خبيرا ماهرا أمينا من بني عبد عدي، وكذلك اختياره طريقا غير الطريق المعهود عند قريش، بالإضافة إلى ما كان يقوم به فهيرة مولى أبي بكر الصديق حيث كان يروح عليهما كل يوم بغنيمات أبي بكر ليشربا لبنها ثم لتختفي آثار أقدامهما تحت أرجل الغنم إلى غير ذلك. لقد كان  يعلم أمته كيف يكون قائدها عند الوقوع في أمثال هذه المواقف، إنه يعلم الأمة كيفية التخطيط والتدبير لكل خطواتها.

ثالثا: السرية والكتمان في السرايا والغزوات

إن كتمان الأسرار من أعظم أسرار النصر على الأعداء، فمما ساعد رسول الله  على النصر على أعدائه أن كثيرا من أسراره كانت محفوظة ومصونة لا تصل إلى المشركين، فكانت جميع الغزوات والسرايا وخططها تتم في سرية تامة. فعن كعب بن مالك  قال: “ولم يكن رسول الله  يريد غزوة إلا ورَّى” (صحيح البخاري، رقم 2787). والتورية أن يقول الإنسان قولا يحتمل أكثر من معنى وهو لا يريد إلا معنى واحدا والسامع يفهم معنى آخر. وسأقتصر هنا على حدثين تجلت فيهما هذه السرية أكثر من غيرهما وهما:

1 – سَرِيَّة عبد الله بن جحش:

أرسل  سرية بقيادة عبد الله بن جحش (وكتب له كتابا وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحدا. فلما سار بهم يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشًا وتعلم لنا من أخبارهم». فلما نظر في الكتاب قال: سمعًا وطاعة. وأخبر أصحابه بما في الكتاب، وقال: قد نهاني أن أستكره أحدًا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماض لأمر رسول الله ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد). (سيرة ابن هشام، سرية عبد الله بن جحش).

2 – غزوة فتح مكة:

لقد بلغ عامل الكتمان في غزوة فتح مكة حد الروعة والكمال، فعندما عزم رسول الله  على الخروج أمر أهله أن يجهزوه للخروج؛ ولكنه لم يخبر أحدا عن وجهته؛ بل أخفى ذلك حتى عن أقرب المقربين إليه وأحبهم إلى قلبه، عائشة أم المؤمنين وأبوها أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وكل ذلك منه أخذا للحيطة والحذر وخوفا من بلوغ الخبر قريشا وانكشاف أمره. فلم يخبر صحابته بوجهته إلا بعد بث عيونه وأرصاده في كل مكان، وتيقنه من عدم بلوغ الخبر لقريش، فكان ما كان من رسالة حاطب بن أبي بلتعة وامرأته إلى قريش التي حال دون وصولها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود رضوان الله عليهم بأمر من رسول الله . فلم يبلغ الخبر قريشا حتى اقتربت جيوش المسلمين منها، فكان الفتح الكبير الذي وعد الله به نبيه . إنا فتحنا لك فتحا مبينا (الفتح: 1).

وفي الختام يمكن أن نستخلص مجموعة من الأمور:

- أن السرية أسلوب نهجه النبي  في مواطن معينة ولغايات محددة: في موطن تدبير أمور الدعوة وإدارة الدولة، وفي مواطن الحروب. ولغاية حفظ الدعوة في بداية الانطلاق والضعف، ولذلك فالعمل به يحتاج إلى فقه في الدين والدعوية رصين، وفقه في الواقع متين.

- أن السرية وسيلة تأخذ حكم الغاية وتخضع لطبيعة الظرف، ونوع العمل.

- أن السرية في الدعوة لا ينبغي أن تؤدي إلى الانغلاق عن المجتمع والشك في الجميع وممارسة التقية إلى حد تسويغ ارتكاب المحرمات بذريعة السرية، لاعتبارات منها:

أولا: أن السرية التي عمل بها رسول الله  لم يثبت فيها ارتكابه لمحرم؛ لأن الأصل في الدعوة أن لا يتقرب إلى الله تعالى بالحرام.

ثانيا:أن النبي  خلال مرحلة السرية ظل يدعو من يثق فيه من خيار قومه.

ثالثا: أن رسالة الإسلام رسالة الانفتاح على الناس والإقناع بالحجة.

رابعا:أن الوضوح في الخطاب والعمل له آثار إيجابية في نشر الدعوة وقبولها والاقتناع بها.

محمد معطلاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>