واعظ الموت


في كل يوم يختطف الموت أحبابا وخلانا، فيسجر القلب بنار الألم ويعتصر، وتذرف الدموع حزنا واعتبارا؛ فنستقيم فترة قصيرة خوفا من سوء الخاتمة، نلملم شتات الخير ونستجمعه لننجز ونعفو ونصفح ونسامح، فيجود علينا التأثير باستقامة آنية، وصفاء في الروح سرعان ما يعلوه دخان الغفلة فيتكدر.

نوقن في لحظات الحزن وكرب الفقد أن الخلود لمن يأبى في هذه الدنيا المقام ويقصد عيش الآخرة؛ لأن السعادة الأبدية في جنات رب السماوات؛ لكن سرعان ما نعود أدراجنا من عالم الاعتبار والموعظة إلى الدنيا التي تجتهد آنئذ في أخذ زينتها وزخرفها والتلون بألوان الغواية، فيفارق الحزن القلوب وتكسى كساء اللهو والغفلة، والأدهى أننا قد نتعود المآثم والأحزان فيخف الإحساس بالألم، وقد يفقد رويدا رويدا فيفضي إلى تبلد الطبع، فنعتاد تشييع الأهل والأحباب وقد شيعنا قبلهم إلى عالم اللهو والفتنة واعظ الفراق وتأثير هادم اللذات. ويتعطل تأثير قول الرسول  فينا: «كفى بالموت واعظا». نعم يتعطل الواعظ الهامس في آذان القلوب حينما تأخذها سنة الغفلة، وتعمل دسائس الشيطان على إضعاف يقين النهاية فيها، وتجعلنا أمام كل حادثة وفاة نغالب صدق الموت وحتميته بأسئلة تكشف وهننا، فينطقنا اللاشعور: كيف مات فلان؟ رأيته بالأمس فقط؟ لا زال صغير السن؟

وكأننا لا نعلم أن كل نفس ذائقة الموت ونعرض عن جزم قوله تعالى: إنك ميت وإنهم ميتون.

لكنها جبلة حب الخلود التي ركنت إلى وسوسة من اجتهد في زرع الأماني والآمال فينا فتلاعب بيقيننا، طامعا في أن يكون لنا نفس مصيره -والعياذ بالله-.

أقنعنا في الكثير من أحلام منامنا أن الميت يعود إلى الدنيا ويخبرنا بلسانه أنه لم يمت، بل هو في حياة، وذلك ليزعزع يقين الموت في قلوبنا، ويصيب إيماننا في مقتل، ونحن لا نبصر ولا نتبصر لقصور في أفهامنا، ولجهلنا بمعنى الحياة.

فالميت في حياة؛ نعم هو في حياة حقا لكنها حياة البرزخ؛ حياةٌ الأرواح فيها إما منعمة وإما معذبة، ونحن في حياة أخرى حياة دنيا نرفل في نعيمها الزائف فنلهو ونلعب ونتفاخر بالأموال والأنفس، ونتجاهل أن هناك حياة أخرى هي الحياة الحقيقية الأبدية الدائمة الباقية، وأن الحياة الدنيا بالنسبة إليها ليست إلا كما وصفها رسول الله  في قوله: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع». وإذا كان شأن الدنيا هكذا فسيكون من السفه أن يكثر المرء التفريط في قليل بضاعتها، وأن يصرف الأنفاس المعدودة والأيام المحدودة فيها سدى، ويبالغ في التقصير في العمر القصير، فما خلقت الدنيا لنحوزها بل لنجوزها.

وذلك قبل أن يقول أحدنا في موضع الجد والرهبة يا ليتني قدمت لحياتي، وأن يتحسر قائلا: يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله.

ولكن هيهات هيهات لمن أثقلته أدرانه أن تكشف له حقيقة الأمور، مادام قابعا في وهم المتعة الزائلة، فلن تفل أغلال غوايته إذا لم تسحق على صخرة الإيمان بالله وطاعته وامتثال أمره، ولن يؤثر فيه الموت إذا لم يهبه الله اليقين، ولن يهبه الله تعالى اليقين إذا لم يكثر الطاعة ويصدق في العبادة.

فإذا كان منه ذلك تحوّل كل حادث موت إلى ملهم للصلاح والاستقامة، وواعظ للخير وداع إليه، وموقظ للرهبة من سوء المصير والرغبة فيما عند الله تعالى والصبر على كل مشقة وإعواز، وتهيئة لزاد الرحيل. وبذل للنفس في الوصول إلى مقامات القرب، والجواز إلى المنزل والمتبوأ. فتقوم بذلك شواهد الحق في القلوب وتصير لها بمنزلة العيان، فيعلم العبد أن الظعن عن هذه الحياة ضرورة؛ لأنها منزل عبور لا منزل قرار، وأن الحياة الآخرة هي المستقر وما ذلك إلا بتوفيق من بيده أزمّة الأمور، الذي ثبت قلوب من سبقت لهم منه الحسنى، ويسر لهم سبل الاستقامة على صراطه المستقيم، فخاضوا السباق مع السائرين. وأقعد نفوس الأشقياء عن السير إليه فصرفوا أعمارهم في المعاصي مع زمرة المتخلفين.

فإن وجدت رينا في قلبك فسل كتاب رب العالمين يبصرك بطريق الولوج، وأدم قراءة سنة سيد الخلق تجد مفاتيح الدخول، واعتبر بسير الصالحين الذين أقلقهم هم الآخرة.

فهذا الربيع بن خيثم كان إذا رأت أمه قلقه بالليل قالت: يا بني لعلك قتلت قتيلا فيقول: يا أماه قتلت نفسي.

وقيل لعابد ينتحب: إنك تفسد على المصلين صلاتهم بارتفاع صوتك، فقال إن حزن القيامة أورثني دموعا غزارا، فأنا أستريح إلى درفها أحيانا.

وأقول للمعتبر ما قاله ابن الجوزي رحمه الله: “يا هذا قد سمعت أخبار المتقين فسر في سربهم، وقد عرفت جدهم فتناول من شربهم، ثم سل من أعانهم يعنك”.

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>