تعليمنا والقيم المفقودة في الرؤية المنشودة


أصدر المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي مشروع “رؤية استراتيجية للإصلاح 2015 – 2030″ وجعل شعار الجودة واحدا من الشعارات الثلاث التي ستنهض عليها المدرسة الجديدة إضافة إلى شعاري الإنصاف والارتقاء.

وإن الناظر الحصيف لا يملك إلا أن يقدر قيمة هذا المشروع لأسباب منها:

• شجاعته في الإقرار بأن المدرسة المغربية اليوم “لا تزال تعاني من اختلالات وصعوبات مزمنة” أرجعها لأسباب “ضعف تماسك وانسجام مكونات المنظومة التربوية، وضعف مستوى نجاعتها ومردوديتها، وضعف ملاءمة مناهجها وتكويناتها مع متطلبات المحيط” إضافة إلى “النقص الشديد في إدماج بنيات مجتمع المعرفة وتكنولوجياته الجديدة ومواكبة مستجدات البحث العلمي وعالم الاقتصاد ومجالات التنمية البشرية والبيئية والثقافية”

• تشخيصه للتحولات الكبرى التي شهدها المغرب في مطلع الألفية الثالثة سياسيا واجتماعيا وثقافيا ولغويا بدقة وانتقائية هادفة.

• إقراره أيضا بأن هذه الرؤية “تستند إلى مبادئ الثوابت الدستورية للأمة المغربية، المتمثلة في الدين الإسلامي، والوحدة الوطنية، والملكية الدستورية، والاختيار الديمقراطي؛ والهوية المغربية الموحدة، المتعددة المكونات والغنية الروافد والمنفتحة على العالم، المبنية على الاعتدال والتسامح وترسيخ القيم وتقوية الانتماء والحوار بين الثقافات والحضارات؛ ومبادئ حقوق الإنسان.”

• صياغته للخطوط الكبرى لمشروع الرؤية في جملة أهداف على رأسها:

• الانتقال بالتربية والتكوين من منطق التلقين والشحن إلى منطق التعلم وتنمية الحس النقدي، وبناء المشروع الشخصي، واكتساب اللغات والمعارف والكفايات، والقيم والتكنولوجيات الرقمية.

• الرفع المستمر من المردودية الداخلية والخارجية للمدرسة.

• تمكين المدرسة من الاضطلاع الأمثل بوظائفها في التنشئة الاجتماعية والتربية على القيم في بعديها الوطني والكوني، وفي التعليم والتعلم، وفي التكوين والتأطير، وفي البحث والابتكار، وفي التأهيل وتيسير الاندماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والملاءمة المستمرة للمناهج والتكوينات مع حاجات البلاد، ومع المهن الجديدة والمستقبلية والدولية، ومع متطلبات العصر.

• الاستجابة لمتطلبات المشروع المجتمعي المواطن الديمقراطي والتنموي.

• الإسهام في انخراط البلد في اقتصاد مجتمع المعرفة.

وبناء على هذه الأهداف حدد مشروع  المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي وظائف المدرسة المغربية وأسسها في المرحلة المقبلة.

ملاحظات

يلاحظ بهذا الخصوص تركيز الرؤية أهدافها على ما يلي :

• التركيز على التكوين المهني, وإغفال المعارف الدينية والأدبية إغفالا كاد يجعل من الرؤية تصنيعا لإنسان آلي لا يحركه إلا هاجس المادة والبطن. ولا يخفى ما في هذا التوجه نحو المهن من الاستجابة لمتطلبات الاقتصاد المحلي والعالمي، وما فيه من انتفاع المواطنين في معاشهم غير أنه لا ينبغي أن يخفى ما فيه من إقصاء لشرائح كبيرة من المتعلمين من الولوج إلى التعليم العالي والتخصصات العلمية الجامعية الدقيقة، ومن إفراغ للتعليم من محتواه الروحي والقيمي المتوازن.

• التركيز على ربط المدرسة بمحيطها الاقتصادي مع إغفال محيطها الثقافي والديني والتاريخي وكأن للمدرسة محيط واحد هو الاقتصاد

• التركيز على القيم الكونية وإغفال القيم الإسلامية اللهم في المدخل -كما أوردناه أعلاه- مما يرسخ في المتعلم جهلا بالذات ومنجزاتها الحضارية وقيمها الإنسانية الأصيلة، إضافة إلى غياب المحاضن التربوية السليمة والتنشئة الاجتماعية الناجعة المستوعبة لقيم الذات والقيم الجديدة التي دخلت مجتمعاتنا مع العولمة وسياق العلاقات الدولية المتشابك.

• إيلاء أهمية بالغة للغات الأجنبية مع إهمال اللغة العربية والتدريس بها في مجال العلوم جاء في الرؤية “استفادة المتعلمين، بفرص متكافئة من ثلاث لغات في التعليم الأولي والابتدائي؛ هي العربية كلغة أساسية، والأمازيغية كلغة التواصل، والفرنسية كلغة الانفتاح، تضاف إليها الإنجليزية ابتداء من السنة الأولى إعدادي (وابتداء من السنة الرابعة ابتدائي في أفق 2025)، ولغة أجنبية أخرى اختيارية منذ السنة الأولى ثانوي تأهيلي ولاسيما اللغة الإسبانية” إضافة إلى إحداث الباكلوريا الدولية لتدريس العلوم باللغة الفرنسية وفي ذلك ما فيه من التراجع عن مكتسبات التعريب والاستجابة لمطالب التيار الفرونكفوني وإلا فإذا كان المشروع يراهن على ربط المدرسة بمحيطها الاقتصادي المحلي والدولي فإن الإنجليزية أولى وأحرى.

ولذلك فإن حظوظ اللغة العربية وقيمها الثقافية والدينية والتاريخية ستشهد تراجعا ملحوظا عما هي عليه من الضعف في التحصيل فرغم أن “الرؤية”  تتصور أن الحاصل على الباكلوريا سيكون “متمكنا من اللغة العربية قادرا على التواصل باللغة الأمازيغية متقنا للغتين أجنبيتين على الأقل” فإن ضعف الحصيلة اللغوية للتلميذ في مجال اللغة العربية يعد معضلة لم تضع لها الرؤية ما يكفي من الحلول والوسائل والإجراءات.

إن سؤال الجودة والقيم يتلاشى أمام تبني الدولة لشعارات أخرى مناقضة لهذه الشعارات، وعلى رأسها تقليل نفقات الدولة على التعليم مما يجعل التعليم المدرسي والجامعي أيضا يعاني من الاكتظاظ الفاحش الذي لا يمكن معه تحقيق أدنى نسبة من الجودة والتربية على القيم ولا الإنصاف والابتكار  والارتقاء.

ومع ذلك نرجو أن تتضافر الجهود وتتكامل النيات الصادقة من أجل النفع العام والإسهام كل من موقعه في ترسيخ القيم البانية للتلميذ المغربي بما يجعله مواطنا صالحا متشبثا بدينه وقيمه الوطنية ومعتزا بها وقادرا على التجاوب مع قيم محيطه الدولي بإيجابية فاعلة في الخير، فحاجتنا اليوم إلى التربية على قيمنا الإسلامية وثقافتنا الوطنية والتاريخية واللغوية وتعزيز مكانتها في المنظومة التعليمية والاعلامية والثقافية أولى من التهافت على القيم الحديثة وقيم مجتمع السوق والاستهلاك.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>