لآلئ وأصداف – كن محبا


إن أردت الدنيا فكن محبا.. وإن أردت الآخرة فكن محبا.

إن أردت حب الله فكن محبا… وإن أردت حب الصالحين من الناس فكن محبا.

إن أردت أن تكون نغمة منسجمة مع سمفونية الكون فكن محبا.

وإن أردت أن تكون آهة في ناي الوجود فكن محبا.

وإن أردت أن يكون هواك تبعا لما جاء به عندليب الكون، محمد ، فكن محبا.

وإن أردت أن تكون زادا للضعفاء والمساكين فكن محبا.

اجعل الحب مبتداك ومنتهاك تكن أسعد الناس.

واجعل الحبّ في طريقك إلى الله زادا تكنْ أحكم الناس.

وإن أردت أن تكون شوكة في حلق الظالمين فكن محبا.

وإن أردت محاربة الفساد والمفسدين في الأرض فكن محبا.

وإن أردت أن تكسر شوكة المستكبرين في الأرض فكن محبا.

ليس هذا الذي أقول لك ضربا من الخيال، ولا تهويما مع الأحلام.

هو ليس بناء لقصر على الرمال، فأنت مدعو إلى أن تبني قصرك في الجنة بنفسك، إن تدبرت آيات الحب في كتاب الله تعالى وسنة حبيبه، سيد المحبين والمحبوبين، . أليس غاية المنى أن تكون محبوبا عند الذي خلقك ورزقك، وتدبّر أمرك كله، وسوّاك وهداك؟ فإن الله تعالى يقول: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (المائدة: 54)، فإذا أردت معرفة الطريق المؤدية إلى هذا الحب، فاسمع خطاب الله تعالى لحبيبه : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (آل عمران: 31)، وأي شرف هو أعظم من هذا الحبّ؟ فكن أيها العاقل محبّا.

وقد قرر ابن الخطيب، في كتابه: (روضة التعريف بالحب الشريف)،أنّ الوجود كله أصله المحبة، وأن كل ما في الوجود محبّ مشتاق، وأن المولى هو بالحبّ أولى.

ومن أسرار الحب العُلْوي أن المرء إذا أحبّ الله ورسوله أحبّه الله ورسوله. وأما البشر فهو مدعو إلى أن يحبهم، إلا أنه لا يضمن دائما أن يكون محبّا ومحبوبا، ومن البلاء أن يكون محبا غير محبوب، كما قال المتنبي:

أنت الحبيب ولكني أعوذ به

من أن أكون محبّا غير محبوب

فقد روى البخاري في الصحيح من قصة بريرة أنّ زوجها كان يمشي خلفها بعد فراقها له وصارت أجنبية منه، ودموعه على خديه، فقال النبي : «يا عباس، ألا تعْجب من حبّ مغيث بَريرة ومن بُغض بريرة مغيثا؟ ثم قال لها: لو راجعتيه؟» “فقالت: أتأمرني؟” «فقال: إنما أنا شافع.» “قالت: لا حاجة لي فيه”. ولم ينهه عن عشقها في هذه الحال، إذ ذلك شيء لا يُملَك ولا يدخل تحت الاختيار. وأيّ عقاب هو أشد وأنكى من أن يُحرم من حبّ الله تعالى؟ فلذلك كان أشد عذاب ينتظر الظالمين، والمفسدين، والمستكبرين، وأشياعهم هو أن يُمنعوا حبَّ الله تعالى. قال : إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ .

ويستطيع المرء أن يحصّن نفسه من هذا المصير المؤلم، مصير فقدان المحبة، ولاسيما محبة الله ورسوله، بأن يعمل على تطوير الحب البشري، الذي هو فطري في البشر، لا يخلو منه قلب، وذلك بأن يرتقي به من الهوى إلى الحبّ، ومن الحبّ المتعلق بالدنيا إلى الحب في الله ورسوله، فلا منجاة إلا بذلك.

وحسب الحبّ شرفا أن يقرنه رسول الله  بالإيمان، حيث لا يكتمل إيمان المرء إلا بالحب، حب الله، وحب الرسول، وحب إخوانه المؤمنين.

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة : قال رسول الله : «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم».

فإذا كان مطمح الأنفس الشريفة هو الجنة، ودخول الجنة متوقف على الإيمان، فإن الإيمان متوقف على الحبّ. فلماذا يعجز الإنسان عن أن يتسربل بالحب، حتى يمتزج بروحه؟ ذلك بأن للإيمان حقائق، ومن حقائقه ما بيّنه رسول الله  في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (رواه البخاري ومسلم)، فكيف يدعي الحبّ من لا يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه؟ وكيف يدعي الحبّ من لا يأمن جاره بوائقه؟

ومما لاشك فيه أن أشرف درجات الحبّ، حبّ الله ورسوله، فعن أنس بن مالكٍ  قال: قال رسول الله : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين» (متفق عليه).

وإذا كان الإيمان لا يتم إلا بالحبّ، فإن للإيمان حلاوة، وما قيمة إيمان لا حلاوة له؟ ولإدراك حلاوة الإيمان، لابد من الاغتراف من كأس الحب.

عن أنس بن مالك  عن النبي  قال: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

وما أعظم الحديث القدسي الذي علمنا سيد المحبين  به أعظم درس في الحبّ: «إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنّه». (رواه البخاري).

فهلمّ أيها الجوعى العطشى إلى مائدة الحبّ، فإنه لن يُذهبَ جوعَكم، ولن يرويَ عطشَكم إلا هذه المائدة المباركة: مائدة الحبّ.

أ.د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>