الديمقراطية الغربية ترسب في اختباراتها تاريخيا   1


منذ ظهور الدولة الديمقراطية الحديثة وتأسيسها على مبادئ الليبرالية واحترام الحريات السياسية والاقتصادية والثقافية، الفردية والجماعية مع الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية، والديمقراطية الغربية تتعرض لاختبارات عسيرة قلما تخرج منها ناجحة وسالمة.

1 – كانت أقوى الهزات التي زعزعت الديمقراطية الغربية هي الحركات الاستعمارية التي قادها رواد هذا الفكر، وكان من نتائجها: استعباد الآلاف من البشر وقتل ملايين من سكان البلدان المتخلفة وهدر حقوقهم الثقافية والسياسية والسيطرة على ثروات الشعوب، وما تبع ذلك من القضاء على لغاتها وثقافاتها وخصوصياتها. وهنا لم تصمد الديمقراطية الغربية وأنظمتها العلمانية للتصدي لللوبيات الاقتصادية والتنصيرية.

2 – وتوالت الهزات بعد مرحلة الاستعمار خاصة بعد قيام النظام الدولي على حق التدخل في الدول، وإقامة أنظمة موالية لهذا الطرف أو ذلك، وإقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، والكيل بمكيالين والتعامل بمعيارين. وهنا أيضا سقطت مبادئ الديمقراطية الغربية أمام أرباب المصالح الاقتصادية والعسكرية !!

3 – وخلال الربيع العربي وضعت الديمقراطية الغربية من جديد أمام محك صعب بين تأييد الإصلاحات وتوسيع الحريات أو تأييد الأنظمة المستبدة والإبقاء على حالات الفقر والهدر مستمرة، فقد عاين الجميع كيف تحولت الدول الغربية من راعية الديمقراطية إلى دول منقلبة على الشرعيات في البلدان العربية وغيرها.

وهنا فشل الغرب كله في احتضان مطالب الإصلاحات وتخوف منها خصوصا بعدما أفرزت صناديقها الأولى توجهات إسلامية في تونس ومصر، وآثر الغرب تأييد الاستبداد والظلم والردة على الإصلاحات, وإشعال المنطقة بالحروب المدمرة ورعايتها بنفسه.

4 – شكلت قضية الهجرة واللجوء نحو أوروبا التي ارتفعت نسبتها كثيرا في الدول التي فقدت الاستقرار (العراق، سوريا، ليبيا، واليمن) أو التي تعاني هشاشة سياسية واقتصادية. واحدة من أهم الصعوبات التي وضعت الديمقراطيات الأوروبية أمام امتحان عسير، حيث تصاعدت مواقف الرفض للاجئين، وتصاعدت الخطابات العنصرية والعدائية، وتزامن ذلك مع ارتفاع نسبة الاعتداءات والتفجيرات التي شهدتها عدة دول أوروبية (بلجيكا، فرنسا وألمانيا) مما أفرز تناقضا صارخا بين مبادئ الفكر الديمقراطي وحق الجميع في العيش والكرامة والأمن؛ وبين واقع الممارسة السياسية المصلحية والإيديولوجية. وقد دفع دولا أوروبية كثيرة إلى تبني مواقف لا إنسانية: بناء جدران على طول الحدود، تسييج الحدود بأسلاك شوكية وكهربائية، طرد المهاجرين، إجبارهم تحت القهر والفقر والفاقة على تغيير دينهم (تنصير عددا منهم)..

5 – الحجاب ولباس البوركيني شكل واحدة من الهزات الكبرى التي عرت وجه الديمقراطية؛ حيث أظهرت حقيقة مواقف أوروبا والغرب من قبول الآخر المختلف دينا ولغة وممارسات مما يدخل في صميم الحريات الفردية وخاصة الإسلام والمسلمين، فمنذ هجمات 11 شتنبر 2011 والغرب يعرف تصاعد خطاب الكراهية والعداء للإسلام والمسلمين، وقد حظرت كثير من الممارسات الدينية كالحجاب في الأماكن العامة، وتمت ملاحقة كثير من المؤسسات والتضييق عليها.

وقد فجَّر حظْر لباس البوركيني في فرنسا في صيف هذا العام النقاش من جديد في أوربا وغيرها عن مدى صمود الدمقراطية أمام قبول الآخر المختلف. وتعالت في الغرب نفسه أصوات محسوبة على اليمين المتطرف معتبرة لباس البوركيني تهديدا وتقويضا لأسس الدولة الديمقراطية العلمانية! في حين تعالت أصوات أخرى مستنكرة هذا التطرف والغلو الذي يمكن أن يكون هو التهديد الحقيقي للديمقراطية، معتبرة اللباس مسألة حرية شخصية، مما أجبر مجلس الدولة الفرنسي على إصدار قرار يقضي بتعليق قانون حظر البوركيني بعد أن انتشرت صور نزع الشرطة الفرنسية بالقوة لباس إحدى المسلمات في إحدى الشواطئ، وتوسعت معها صور الاستنكار والتنديد عالميا، وتناولت كثير من كبريات الصحف الغربية قرار منع لباس البوركيني ومسوغاته بسخرية لاذعة. فهذه يومية «الإنترناسيونال» تكتب: فرنسا تعلن عن أحدث تهديد أمني لها: البوركيني !!.

أما بي بي سي فأعدت تقريرا عن الموضوع واعتبرت الأمر هجوما إسلاموفوبيا ضد مسلمي فرنسا. ومن جهتها اعتبرت تلغراف أنّ الأعداء الحقيقيين للحرية ليست السيدات اللواتي يسبحن بالبوركيني، إنّما السياسيون الذين يمنعون تلك النساء من السباحة تحت مبررات الخطر من الإرهاب.

وأخيرا تبقى كثير من الأسئلة عالقة: هل الديمقراطية الغربية في ذاتها وبطبيعتها لا تقبل المخالف؟ أم أن الأمر يتعلق بقوى نافذة تتولى مسؤولية حماية الديمقراطية وتوجيه تفسيرها وتطبيقها؟ إلى أي حد استطاعت هذه اللوبيات تحريف الديمقراطية الغربية لتصبح غير قابلة لقبول الآخر واضطهاده باسم الديمقراطية نفسها؟ ألا يصح القول بأن الديمقراطية أصبحت مثل مؤسسة كنسية يقف عليها أربابها وقساوستها (الديمقراطيون) يعطون صكوك الغفران لمن شاؤوا ويشنون العدوان على من شاؤوا؟.

الطيب بن المختار الوزاني


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “الديمقراطية الغربية ترسب في اختباراتها تاريخيا