“لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك”


في هذه الأسطر بيان لفضل يعود على الصائم وهو أن: “فمه أطيب من ريح المسك”. وذلك ببيان بعض الأبعاد العقدية والفقهية لهذا الأمر.
فعن أبي هريرة ، عن النبي قال فيما يرويه عن ربه: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
وعند الإمام مسلم: «والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله، يوم القيامة، من ريح المسك».
إن المقصود بالْخُلُوفُ هنا هو: تَغَيُّرُ طَعْم الْفَم لِتَأْخِير الطَّعَام. ولهذا الأمر أثر عقدي يتجلى في الفهم السقيم الذي ينسب إلى الله  حاسة الشم متمسكا بظاهر الحديث.
وإنما سميته فهما سقيما لأنه يقف عند ظاهر الحديث، ولا يعطي نفسه فرصة جمع الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، فيصدر الحكم بعدئذ. ولعل العلة التي أدت بهذا الاتجاه إلى نسبة ما سبق ذكره هو حمله الكلام على حقيقته، إذ الأمر هنا ليس حقيقة، بل هو من باب المجاز، وما دام كذلك فلا تصح تلك النسبة السالفة، ولهذا أكد الإمام المازري أن قوله : «أطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك» مجاز واستعارة وحجته في ذلك أن: استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائع تميل إلى شيء فتستطيبه وتنفر عَن آخر فتستقذره، والله تعالى يتقدس عن ذلك، ولكن جرت العادة فينا أن نقرب الروائح الطيبة منّا. واستعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله سبحانه، وهذا فهم سليم معضد بروح الشريعة ومقاصدها، وله أثر عقدي يكمن في استبعاد حاسة الشم من صفات الله .
ولب القول: إن الخلوف ليس مقصودا لذاته، كما أن المشقة ليست مقصودة من العبادات. فهو أمر عرضي. إذا استطاع الصائم تحقيق الصيام بدونها فذلك ما يتناسب مع الفهم العام للشريعة والذي يدعو إلى التطيب.
كما أن لهذا الأمر الذي نحن بصدد الحديث عنه أثر فقهي يتجلى في منع السواك أو جوازه.
فقد احتج الإمام الشافعي بالثناء على الخلوف لمنع السواك بعد نصف النهار، وهو وقت وجود الخلوف؛ لأن السواك يذهبه، وفى بقائه من الأجر والفضل ما لا يجب عنده إزالته.
وذهب مالك إلى جوازه فى النهار كله؛ لأنه عنده إن كان من المعدة فلا يذهبه السواك. فإن جعلنا الكلام في الثناء على الخلوف حسب القاضي عياض استعارة وتنبيهًا على فضل الصوم، لا على نفس الخلوف، فذهابه وبقاؤه عنده سواء.
ولهذا أورد الإمام ابن القيم إجماعا يخص جواز السواك حيث قال: “أجمع الناس على أن الصائم يتمضمض وجوبا واستحبابا، والمضمضة أبلغ من السواك، وليس لله غرض في التقرب إليه بالرائحة الكريهة، ولا هي من جنس ما شرع التعبد به، وإنما ذكر طيب الخلوف عند الله يوم القيامة حثا منه على الصوم، لا حثا على إبقاء الرائحة، بل الصائم أحوج إلى السواك من المفطر.
وقد انتصر ابن القيم لما ذهب إليه بأدلة عقلية، أورد منها:
• إن رضوان الله أكبر من استطابته لخلوف فم الصائم.
• إن محبته للسواك أعظم من محبته لبقاء خلوف فم الصائم.
• إن السواك لا يمنع طيب الخلوف الذي يزيله السواك عند الله يوم القيامة، بل يأتي الصائم يوم القيامة وخلوف فمه أطيب من المسك علامة على صيامه، ولو أزاله بالسواك، كما أن الجريح يأتي يوم القيامة، ولون دم جرحه لون الدم، وريحه ريح المسك، وهو مأمور بإزالته في الدنيا.
• إن الخلوف لا يزول بالسواك، فإن سببه قائم، وهو خلو المعدة عن الطعام، وإنما يزول أثره، وهو المنعقد على الأسنان واللثة.
• إن النبي علم أفراد أمته ما يستحب لهم في الصيام، وما يكره لهم، ولم يجعل السواك من النوع المكروه، وهو يعلم أنهم يفعلونه، وقد حضهم عليه بأبلغ ألفاظ العموم والشمول، وهم يشاهدونه يستاك وهو صائم مرارا كثيرة، ويعلم أنهم يقتدون به، ولم يقل لهم يوما من الدهر: لا تستاكوا بعد الزوال، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع، والله أعلم.
وبهذه الأدلة العقلية التي أوردها هذا الإمام الكبير يتضح بجلاء أن السواك بالنسبة للصائم لا حرج فيه، ولا يتعارض مع الحديث الذي أوردته في البداية.
إعداد: رشيد رزقي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>