أوشك رمضان على الرحيل فمن الرابح ومن الخاسر؟


الخطبة الأولى:
وبعد:
فيا عباد الله: إنَّ بلوغ رمضان لنعمةٌ عظمى ومِنحةٌ كبرى، لا يقدرها حق قدرِها إلا الموفَّقون، فلقد كنّا بالأمس القريبِ نتشوق للقائه، ثم -ولله الحمد- تنعمنا ببهائه، وعشنا في نفحاته لحظات مرَّت مرور الطيف، ولمعت لمعان البرق.
يخرج المسلم منها بصفحة مشرِقة بيضاء ناصعةٍ، مفعمَة بفضائل الخصال، مبرأةً من سيئات الأعمال، قد استلهم الصائم الصادق المحتسب من مدرسة رمضان قوَّةَ الإرادة والعزيمة على كل خير، وتقوى الله في كل حين، تقويمًا للسلوك، وتزكية للنفوس، وتنقيةً للسرائر، وإصلاحًا للضمائر، وتمسُّكًا بالخيرات والفضائل، وبُعدًا عن القبائح والرذائل؛ فيغدو الصوم لنفسه حصنًا حصينًا من الذنوب والمآثم، وحمى مباحًا للمحاسن والمكارم، فصفتْ روحه، ورقَّ قلبه، وصلحتْ نفسه، وتهذَّبتْ أخلاقه.
هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد قال : «الصِّيَامُ وَالقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ القُرْآنُ مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيَشْفَعَانِ» (رواه أحمد وصححه الألباني).
أما من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فيمضى ليالي رمضان المباركة في لهو ومعصية، ونهاره في نوم وغفلة، لا يرعَ للشهر حرمته، ويتجرأ على الحرمات، فليبكِ لعظيم حسراته، وليسعَ لاستدراك ما فاته؛ لئلا يكون ممن قال فيه : «أَتَانِي جِبْرَائِيلُ فقال: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ…».
فهنيئًا لمن أحسن استقباله… هنيئًا لمن أكرم وفادته.. هنيئًا لمن قام ليله وصام نهاره.. هنيئًا لمن أقبل فيه على الله بقلبه وجوارحه.. هنيئًا لمن تقرب إلى الله فيه بأعمال صالحة.. وكفَّ النفس عن سيئات قبيحة.. هنيئا لمن أدرك ليلة القدر وأحياها بالقيام والذكر والدعاء وتلاوة القرآن إيمانا واحتسابا.. هنيئًا لمن تاب الله عليه، ورضي عنه، وأعتقه من النار في رمضان، وآهٍ على شخص أدرك رمضان ولم يغفر الله له!!.. واحسرتاه على أناسٍ دخل رمضان وخرج، وهم في غيهم يعمهون!.. وخلف الشهوات يلهثون!.. وفي القربات مفرطون ومقصرون!! يقضون لياليهم أمام الفضائيات يتتبعون المباريات الكروية، ومن الغالب والمغلوب ونسوا أنهم مغلوبون على أمرهم باستسلامهم لشهوات أنفسهم. ويا حسرتاه على أناس يقضون ليالي رمضان أمام المسلسلات والأفلام والمهرجانات الغنائية، وبعد ذلك يقضون سائر أيامهم في النوم إلى ساعات متأخرة من النهار.
أفلا يحق لنا أن نبكي على فراق شهرنا الكريم ولياليه الزاهرة، وساعاته العطرة.. التي ولَّتْ مدبرة، وتتابعت مسرعة، فكانت سجلاَّتٍ مطويَّة، وخزائن مغلقة، حافظةٌ لما أودعناها، شاهدةً لنا أو علينا، لا يُدرَى من الرابح فيها فيهنى، ولا الخاسر منا فيُعزَّى.. حتى ينادي الله بنا يوم القيامة: «يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ» (رواه مسلم).
فها هو رمضان آذن بوداع، والعيد على إقبال بإسراع. يقول شاعر متأثرا برحيل رمضان:
يَا رَاحِلاً وَجَمِيلُ الصَّبْرِ يَتْبَعُهُ
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى لُقْيَاكَ يَتَّفِقُ
مَا أَنْصَفَتْكَ دُمُوعِي وَهْيَ دَامِيَةٌ
وَلاَ وَفَى لَكَ قَلْبِي وَهْوَ يَحْتَرِقُ
فيا من صفَتْ له الأوقات في شهر الخيرات، وعمَّر ساعاته بالصالحات، وزكَّى نفسه بالطاعات، وفاضت عينُه بالعبرات، قد زال عنه تعب القيام وجوع الصيام وثبت له الأجر والثواب -إن شاء الله تعالى-، احمد الله! واذكر نعمة ربك القائل: وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (النور: 21).
واجتهد فيما بقي من حياتك، ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. قال : «يَا عَبْدَاللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْل . فأنت لا تدري هل قبل الله عملك أو ردَّه عليك؟
روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سعيد أن عائشة رضي الله عنها قالت: “سألت رسول الله عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ (المؤمنون: 60)؛ فقلتُ: “أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟” قال: «لاَ يَا بْنَتِ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينِ يَصُومُونَ وَيُصَلُّون وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لاَ يُقْبَلَ مِنْهُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ».
قال ابن عمر : “لو أعلم أن الله تقبل مني ركعتين؛ لتمنيت الموت بعدها قال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ (المائدة:27).
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: “أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أُيقبل منهم أم لا؟” وقال ابن رجب: “كان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا؟!”
إخواني: إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت، قال الله : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر: 99)، وقال النبيُّ : «إِذَا مَاتَ العَبْدُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ» فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلا الموت.
ولقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم عن السفاسف؛ فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين عابدين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات، وهاك طرفًا من عباراتهم وعباداتهم، التي تدل على تشميرهم وعزيمتهم وهمتهم:
قال الحسن: “من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره”، وقال وهيب بن الورد: “إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل”، وقال الشيخ شمس الدين محمد بن عثمان التركستاني: “ما بلغني عن أحد من الناس أنه تعبد عبادة إلا تعبدت نظيرها وزدت عليه”
وكان أبو مسلم الخولاني يقول: “أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟! كلا والله.. لَنُزاحمَنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً”.
قال عمر بن الخطاب : “إن لهذه القلوب إقبالاً وإدبارًا، فإذا أقبلت فخذوها بالنوافل، وإن أدبرت فألزموها الفرائض”.
فيا عجبًا لإنسان عاقل يعود إلى مرارة المعصية بعد أن ذاق حلاوة الطاعة!!
فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام والقيام والصدقة والذكر وتلاوة القرآن؛ فصيامَ ستٍّ من شوالٍ بعد رمضانَ كصيام الدهرِ.. وكذلك صيام ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ؛ فقافلة العمَل الصالح التي لا تتوقَّف رحالها، ولا تتصرم حبالها، فطاعة الله هي الطريق إلى رضاه، و الاستكثار من العبادة يحوِّلُ الأشقياءَ إلى سعداءَ، وتجلب محبة الله لعبده والدفاعِ عنه إذا أصابه من غير الله مكروه.
والمداومة على الأعمال الصالحة تُطهِّر القلوبَ، وتزكّي الأنفسَ، وتُهذب الأرواحَ، وتُريح الأبدانَ، وتُسعدُ العبدَ في الدنيا والآخرة.
الخطبة الثانية:
أيها المؤمنون والمؤمنات: قال الله تعالى: ليلة القدر خير من ألف شهر . وقال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه». فطوبى لمن نال فيها سبق الفائزين، وسلك فيها بالقيام والعمل الصالح سبيل الصالحين، وويل لمن طرد في هذه الليلة عن الأبواب، وأغلق فيها دونه الحجاب، وانصرفت عنه هذه الليلة وهو مشغول بالمعاصي والآثام، مخدوع بالآمال والأحلام، مضيع لخير الليالي وأفضل الأيام، فيا عظم حسرته ويا شدة ندامته. ويا حسرة من قام ليلة القدر في السهر في المهرجانات الموسيقية والرقص والغناء وطلي الحناء في جو من الاختلاط والمجون والفجور في مساجد الشيطان في الشوارع والأزقة دون إحياء هذه الليلة بالقيام والصلوات والذكر والدعاء وتلاوة القرآن، ودون احترام لحقوق الجوار أو حقوق المارة في الطرقات والشوارع والأزقة. أهكذا نحيي ليلة القدر؟ وهل بهذه الأمور نتقرب إلى الله تعالى؟ إننا مذنبون ومخطئون، المفرط والساكت عن الحق في هذا الأمر سواء. إذا لم نقم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما في هذا الأمر من خطر شديد على الجميع عواقبه وخيمة تتجلى في تمييع وانحراف، تدين الأمة وتفسيخ أخلاقها وتربيتها وفساد عقيدتها، وقتل قيمها، وبالتالي نشر الرذيلة والفسق والمجون وتطبيع الناس بهذه الأمور وكأنها ليس فيها مشكل، بل هي الطامة الكبرى حينئذ.
فيا أيها المسلم: اتق الله تعالى وانتبه لما يحاك ضدك من قبل دعاة نشر الرذيلة والميوعة وشيوع الشر في الأمة مهما كان مصدر ذلك، ومهما كان من دعا إليه، وحذاري أن ترضي شهوتك وتسخط الله رب العالمين، وخاصة في مثل هذه الليلة العظيمة المباركة. يا مَن كنت تصوم وتقوم في وقت واحد مع سائر المسلمين في سائر أنحاء الدنيا، إياك أن تتخلّى عن الإحساس بانتمائك إلى هذه الأمّة الواحدة، وتذكر تلك الطفلة اليتيمة.. والأرملة الكسيرة.. والشيخ العاجز.. وشاركهم في مآسيهم بدعوة صادقة أو صدقة جارية، واجعل فرحة هذا العيد المبارك تعم أرجاء عالمنا الإسلامي لا أريد منك أن تحزن يوم الفرح، ولا تحرم نفسك طيبات ما أحلَّ الله؛ لكن كما أدخلت السرور على أهلك ونفسك بالجديد من اللباس والتوسعة في المال، فهلا سعيت لإدخال السرور على أسرٍ أخرى، قد كبلتهم الديون، وأسرتهم الحاجات، لم يبوحوا بسرهم إلا لله.. ولو أسرة واحدة، فها هي طرق الخير مشرعة أبوابها، فهلموا إليها.. وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا…
د. عبد اللطيف احميد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>