رسوخ قدم السبق في الهداية


أقم حادي العزم يدلج لنشارف الوصول، واستنهض ركائبك للسير فمكابدة قطع المسافات تهون عند لمح بوادي القبول، واعلم أن التجارة رابحة إذا صدق السر وجدّ العمل، والوعد صادق بالمعية والنصر والهداية، وقدم السبق راسخة إذا استرشدت بنبراس النور، وإنما الجزاء أوفى من العمل وأفضل لأنك تتاجر مع كريم. وإذا سألت كيف السبيل فالزم:

مجاهدة سبق وسبق مجاهدة.

لقد أخبر الله  تأكيدا وعلى سبيل التحقيق أن جزاء المجاهدة رسوخ قدم السبق في الهداية إلى سبيله، قال تعالى:وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت: 69).

ولا نقصد برسوخ قدم السبق أن المجاهدين في الله بلغوا مقاما قبل وصول غيرهم إليه على إطلاقه، وإلا فإن هناك تراتبا في السبق: فهناك سابقون أولون، وسابقون آخرون، قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ”ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِين، وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التوبة: 100)، وإنما البغية والقصد أن السابقين غالبوا في تحصيل الخير مغالبة بلغت بهم منتهى الفضل والرفعة، ثم كان لهم السبق دلالة على بلوغ أقصى ما يطلبه الطالبون. فعبرنا بالسبق لأنه أبلغ في الدلالة على شرف قدر المجاهدين في الله في كل ميدان تتسابق فيه نفوسهم الزكية، وقد أمروا بذلك في قوله تعالى: فاستبقوا الخيرات (البقرة: 148)، وفي قوله: سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم (الحديد: 21). دعوة منه سبحانه إلى الاهتمام بمجاهدة نفوسهم بصرف العناية بأقصى ما يمكن حوزه من الفضائل وترك غيرهم ممن لم يصطف معهم في الأخريات مع الخوالف.

وليس السبق مزية لا تنال لأنها خصيصة السالفين من أصحاب الرسول ، وإنما هي مرتبة بشّر الله تعالى كل من جاهد فيه بأن له حظا منها.

ثم مدح الله تعالى بها عباده المقربين في قوله: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (الحديد: 10-11). وهي لا تنال إلا بالتقرب منه سبحانه والمجاهدة في طاعته؛  فإن المطيع لمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله، أي طالب القرب منه، فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قربه الله أي عامله معاملة المقرب المحبوب… ولم يذكر زمان التقريب ولا مكانه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة.

ثم استبصر كيف علق سبحانه سبقهم وقربهم بمجاهدتهم كما جاء في الحديث القدسي: «مَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه» (صحيح البخاري).

وكيف علق هدايتهم بجهادهم، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين، والمقصد من الجهاد عام في الآية: أي جهاد في دين الله طلبا لمرضاته، يؤكد زمن نزول الآية استغراقه في العموم، “قال السدي وغيره: إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال، وقال ابن عطية: فهي قبل الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته.. وقال ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا”.

فيكون كمال الهداية وتحقق السبق من صدق الجهاد “فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا، وأفرض الجهاد جهاد النفس، وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد”.

يقول الجنيد: “الذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه”. فهؤلاء الأعداء غرماء يمكن أن تستوفى منهم الديون، وإنما تنال الأرباح بمزايا الفضائل، وبذلك يأخذ الإنسان من دنياه لآخرته، فيكون المطلب من المجاهدة الاسترضاء، والمقصد التنبيه والاسترعاء، والغاية رسوخ قدم السبق، فتنشر لكل حركة من حركات السابق ثلاثة دواوين: الأول: لم؟ الثاني: كيف؟ الثالث: لمن؟ بهن تتضح معالم طريق السباق مجاهدة ومكابدة، فتكون بذلك المجاهدة من معاني التدافع النفسي للتزكية من نوازع الفساد وبواعث الطغيان، فهي حرب مع النفس والشيطان والهوى” أما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شيطان الجن والإنس إنقاذا لقلبه وروحه من الهلاك الأبدي والخسران المبين”.

سيماء مجاهدة السبق:

المجاهدة عملية وجدانية تنتقل بطبيعة البشرية من طين العادات إلى ماء العبادات، ويكون حاصلها للمؤمن رسوخ قدم السبق على الصراط المستقيم في أقواله وأفعاله وأحواله؛ فأقواله صدق ورشد ونصح، وأفعاله حكمة وعدل ورحمة، وأحواله تفكر وتدبر ومعية. فيكون موصولا بحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض أي القرآن الكريم. “وليس غير القرآن قادر على رسم معالم هذا التحويل الجبلي العجيب وهذه الصناعة التربوية العميقة”.

ثم إن مجاهدة السبق لا يزايلها الوجل من عدم القبول بل هو أصل متجذر في سيمائها، قال تعالى: والذين يوتون ما آتوا وقلوبهم وجلة.  قال الحسن البصري رحمه الله: “يعملون ما عملوا من أعمال السر ويخافون ألا ينجيهم ذلك من عذاب الله”.

والسبق إلى منازل القرب هو توفيق بالعناية الاصطفائية وبالتيسير القلبي والإرشاد الشرعي، قال تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. وهو كحقيقة قرآنية نتاج المجاهدة التربوية التي تقتضي المسارعة في الخيرات، وتورث أسرار المعرفة الإيمانية وتتحقق بها معاني الاستخلاف في الأرض. وبها تحدد سيماء الإنسان الكامل الذي يوظف طاقاته التفكُّرية واستعداداته الروحية في سيره إلى الله .

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>