من تنفعه الذكرى


من الملاحظ أن الحراك الدعوي يشهد نشاطا وتوسعا في المجتمعات العربية اليوم، وأن الساحة تزدحم بكم هائل من الكتب الدينية والبرامج الدعوية، والمجلات والصحف والصفحات والمواقع الإسلامية، وعدد كبير من المحاضرات والندوات التي تصب في نفس المجال. إلا أن السؤال الذي يتبادر في مقابل ذلك هو: لماذا نرى أن نسبة الانتفاع والتأثر بهذه المجهودات ضعيفة إلى حد ما؟ وهذا يجر إلى سؤال آخر هو: كيف تؤثر الموعظة في المتلقي؟ أو: من تنفعه الذكرى؟.
إن الجواب عن سؤالنا هذا صرح به القرآن الكريم في قول المولى جل شأنه: وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين (الذاريات: 55).
إن الأمر الموجه إلى النبي -ومن ثم إلى جميع المسلمين- هو القيام بمهمة التذكير، والتذكير فعلا وتلقيا يشمل الجميع، ولكن الانتفاع والاتعاظ مقصور على المؤمنين، إذن فمن هو المؤمن المقصود في الآية؟
تحيلنا الآية الكريمة على آيات أخرى تتعلق بذات الموضوع، منها قوله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (ق: 37)، لمن كان له قلب؟!.. كلنا لنا قلب!.. لا تستعجل، فالقلب المراد هنا: القلب الحي البصير، غير الأعمى المغشي عليه، قال تعالى: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (الحج: 46).
وكيف تعمى القلوب؟ إنها تعمى عندما تعلوها الغشاوة، ويحفها الران، وتحجبها أستار وظلم المعاصي عن إبصار نور الهدى وإدراك الحق، قال تعالى: بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (المطففين: 14).
صحيح أن هذه الآيات والنصوص مبثوثة في الكتاب العزيز هنا وهناك، إلا أنه لو نظرنا إليها كوحدة موضوعية لوجدناها تحلل الموضوع تحليلا دقيقا شاملا، مبينة مراحل العمى وما بعده وما قبله، تنطلق من أصل المشكلة ومنشأ المعضلة، لتمر بنا عبر مراحل تطور الداء وتفاقمه، انتهاء بالمآل الحتمي، ألا وهو طمس القلب وموته، والذي يعني بالضرورة عدم انتفاعهم بالذكرى:
- حياة الفطرة: إيمان وطاعة، وقلوب نقية تقية؛ تعرف وتنكر، ولَمَمٌ ثم توبة، حالة الخيرية التي قال عنها الحق سبحانه: كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر (آل عمران: 110). وحياة الإحسان التي قال عنها الحق سبحانه: ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم (النجم: 31 32-).
- الإقبال على اجتراح الخطايا وكسب السيئات، ثم التمادي وعدم الأوبة والتوبة. وعلى مثلهم يصدق قول الحق جل وعلا: ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه (الأعراف: 176).
- الران والنكت ثم الطبع والعمى، قال جل شأنه: بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون (المطففين: 14)، وقال أيضا: ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (الحج: 46).
- عدم الانتفاع: قال تعالى: وإذا ذكروا لا يذكرون (الصافات: 13).
- تأليه الهوى والضياع التام، قال سبحانه وتعالى: أفرايت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله (الجاثية: 23).
وهكذا يكون القلب أبيض نقيا شفافا، يسهل عليه أن يستضيء بأنوار الهدى وقناديل الإيمان، وأن يتنسم العبير المنبعث من رياض الطاعات فيحتذيه حتى يردها فيقطف من ثمارها وخيراتها، ولكن الإنسان المجبول على النقص والخطأ قد يزل أحيانا ويقترف بعض المعاصي، وكلما اجترح معصية نكتت في قلبه نكتة سوداء، وأوصدت نافذة من نوافذ الخير، فإن تاب وآب إلى ربه وأقلع عن غيه مستغفرا نادما طهر قلبه، ومحيت نكته، وعاد أبيض وأنقى، شفافا يخترقه ضياء الإيمان، فينير أرجاءه لاتباع الصراط القويم، وإن تمادى في العصيان وأقام على الاغتراف من نهر السيئات والآثام؛ تراكمت النكت على قلبه وتكدست، وعلاه الدرن، ظلمات بعضها فوق بعض، فلا يبصر ضياء، ولا تنفعه ذكرى ولا موعظة، وأنى لها أن تنفذ إلى جلمد صلد لا يخشع ولا يلين؟! ذلك مصداق حديث رسول الله إذ يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُربَادّاً، كالكُوزِ مُجَخِّيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه»، (مسلم: 231).
وهكذا يتضح لنا بجلاء أن الذي تنفعه الذكرى وتنعكس بركتها على مختلف شعب حياته إنما هو المؤمن التواب الأواب، الذي نقى قلبه من أدران الذنوب بذرف الدموع مستغفرا نادما، ثم أقبل على الذكرى والموعظة، وألقى سمعه ووعيه بقلب شهيد حاضر، وشعاره في ذلك سمعنا وأطعنا، ودعاؤه: ربنا اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
إنه (المنتفع بالموعظة) لا يأتي من دون إعداد وتحضير قلبي، لا يتوجه للموعظة وهو يعلم أن قلبه قابع تحت ركام الذنوب، لا يحضر من أجل اقتناص الهفوات واتباع الزلات… إنه من أتى ليؤمن ساعة وليتفقه في دين الله، وليتعلم شيئا جديدا أو يجدد العهد بأمر مضى فيعمل به ويثبت عليه. أولئك الذين تنفعهم الذكرى وأولئك هم المهتدون.
ذ. عبد الرفيع أحنين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>