الرسول في رمضان: نظرات في أحواله في هذا الشهر المبارك (حلقة 1)


يقول ابن القيم رحمه الله تعالى فِي الصِّيَامِ: لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الصِّيَامِ حَبْسَ النَّفْسِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَفِطَامَهَا عَنِ الْمَأْلُوفَاتِ، وَتَعْدِيلَ قُوَّتِهَا الشَّهْوَانِيَّةِ، لِتَسْتَعِدَّ لِطَلَبِ مَا فِيهِ غَايَةُ سَعَادَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَقَبُولِ مَا تَزْكُو بِهِ مِمَّا فِيهِ حَيَاتُهَا الْأَبَدِيَّةُ، وَيَكْسِرُ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ مِنْ حِدَّتِهَا وَسَوْرَتِهَا، وَيُذَكِّرُهَا بِحَالِ الْأَكْبَادِ الْجَائِعَةِ مِنَ الْمَسَاكِينِ.
وَتُضَيَّقُ مَجَارِي الشَّيْطَانِ مِنَ الْعَبْدِ بِتَضْيِيقِ مَجَارِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتُحْبَسُ قُوَى الْأَعْضَاءِ عَنِ اسْتِرْسَالِهَا لِحُكْمِ الطَّبِيعَةِ فِيمَا يَضُرُّهَا فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا، وَيُسَكِّنُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهَا وَكُلَّ قُوَّةٍ عَنْ جِمَاحِهِ وَتُلْجَمُ بِلِجَامِهِ، فَهُوَ لِجَامُ الْمُتَّقِينَ، وَجُنَّةُ الْمُحَارِبِينَ، وَرِيَاضَةُ الْأَبْرَارِ وَالْمُقَرَّبِينَ، وَهُوَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الصَّائِمَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَتْرُكُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ تَرْكُ مَحْبُوبَاتِ النَّفْسِ وَتَلَذُّذَاتِهَا إِيثَارًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ وَمَرْضَاتِهِ، وَهُوَ سِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُ، وَالْعِبَادُ قَدْ يَطَّلِعُونَ مِنْهُ عَلَى تَرْكِ الْمُفْطِرَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ تَرَكَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِ مَعْبُودِهِ، فَهُوَ أَمْرٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَشَرٌ، وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الصَّوْمِ. وَلِلصَّوْمِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ وَالْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَحِمْيَتِهَا عَنِ التَّخْلِيطِ الْجَالِبِ لَهَا الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ الَّتِي إِذَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهَا أَفْسَدَتْهَا، وَاسْتِفْرَاغِ الْمَوَادِّ الرَّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ لَهَا مِنْ صِحَّتِهَا، فَالصَّوْمُ يَحْفَظُ عَلَى الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ صِحَّتَهَا، وَيُعِيدُ إِلَيْهَا مَا اسْتَلَبَتْهُ مِنْهَا أَيْدِي الشَّهَوَاتِ، فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى التَّقْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).
وَقَالَ النَّبِيُّ : «الصَّوْمُ جُنَّةٌ».
وَأَمَرَ مَنِ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ شَهْوَةُ النِّكَاحِ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ بِالصِّيَامِ، وَجَعَلَهُ وِجَاءَ هَذِهِ الشَّهْوَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَصَالِحَ الصَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ مَشْهُودَةً بِالْعُقُولِ السَّلِيمَةِ وَالْفِ -طَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ، شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ رَحْمَةً بِهِمْ، وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَحِمْيَةً لَهُمْ وَجُنَّةً… وَلَمَّا كَانَ فَطْمُ النُّفُوسِ عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا مِنْ أَشَقِّ الْأُمُورِ وَأَصْعَبِهَا، تَأَخَّرَ فَرْضُهُ إِلَى وَسَطِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، لَمَّا تَوَطَّنَتِ النُّفُوسُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاةِ، وَأَلِفَتْ أَوَامِرَ الْقُرْآنِ، فَنُقِلَتْ إِلَيْهِ بِالتَّدْرِيجِ”. (زاد المعاد).
وجدت أن خير ما أفتتح به هذا المقال عن رمضان في حياة رسول الله هذه الكلمة الجامعة عن الصيام من عالم رباني، تختصر كثيرا من كلام الناس اليوم.
ولأن الرسول بعث ليكون القدوة في كل شيء ولكل الناس، كان لزاما على من أراد بلوغ أقصى درجات الكمال الاهتداء بهداه. وسأحاول في هذه الكلمة الاقتراب من حال رسول الله في رمضان –قولا، أما فعلا فهيهات- وقد “كَانَ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ فِيهِ أَكْمَلَ الْهَدْيِ، وَأَعْظَمَ تَحْصِيلٍ لِلْمَقْصُودِ، وَأَسْهَلَهُ عَلَى النُّفُوسِ”. (زاد المعاد).
وهذا الشهر المبارك أمره غريب في حياة رسول الله ، اقترن بأعظم الوقائع في سيرته العطرة: فقد ذكر بعض الرواة أنه ولد في رمضان (المشهور أنه ولد في ربيع الأول)، ونزل عليه الوحي في رمضان، وهو أعظم ما وقع له في حياته، ووقعت له حادثة الإسراء والمعراج في رمضان (كما يذكر ابن عبد البر في الدرر)، وآخى بين المهاجرين والأنصار في رمضان، وكانت أول راية عقدها للغزو في سبيل الله راية حمزة بن عبد المطلب في رمضان من العام الأول للهجرة، وأمر بصوم رمضان في العام الثاني للهجرة، ونصره الله تعالى يوم الفرقان في بدر في رمضان، وفتح مكة في رمضان من العام الثامن للهجرة، وهدم أصنام الشرك فيه، وجاءته فيه وفود أقوى القبائل مبايعة وهي ثقيف وملوك حمير وغسان وبجيلة وغامد. والحقيقة أن وقائع السيرة في رمضان أجل من أن تحصى، لكنني سأحاول اختصار أهم ما تيسر لي من حاله في صيامه وقيامه واعتكافه وجهاده في ها الشهر المبارك.
أولا: شهر رمضان عرفه الله تعالى في القرآن الكريم بأمرين: القرآن أولا ثم الصيام ثانيا وبينهم من الناحية الزمنية 15 عاما، إذ بدأ نزول القرآن في رمضان من العام الأول للبعثة، بينما فرض صيامه في العام الثاني للهجرة، يقول الله تعالى في سورة البقرة: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه . والقرآن باعتباره مصدر العلم، يغلق في وجه الشيطان باب الشبهة، والصوم باعتباره حبس طوعي للنفس عن الشهوات، يغلق في وجهه باب الشهوة، فتغلق في وجه عدو ابن آدم أبواب الشيطان كلها في هذا الشهر، ويعلن المؤمنون الحرب العامة على الشيطان فيخسأ.
ثانيا: الرسول الأكرم إذ هو أعلمنا بهذا، بل منه وصلنا، كانت له أحوال مختلفة في هذا الشهر، فيستعد له ما لا يستعد لغيره، ويفعل فيه ما لا يفعله في غيره. من ذلك:
ابتداؤه ودعاؤه ببلوغ رمضان. وبشارته أصحابه بقدومه.
روى البزار، والطبراني، من طريق زائدة بن أبي الرقاد، عن أنس قال: «كان رسول الله إذا دخل رجب يقول: «الّلهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان».
وروى الإمام أحمد، واللفظ له، والنسائي، عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يبشّر أصحابه بقدوم رمضان، يقول: «قد جاءكم شهر مبارك، افترض الله  عليكم صيامه. يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم».
وروى ابن خزيمة من زوائد كثير بن زيد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله ما مر بالمسلمين شهر هو خير لهم منه ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه».
وهذه من أجمل وسائله التربوية -وكل وسائله جميلة-: أسلوب الترغيب، والتشويق، إن رمضان في المنهاج التربوي لرسول الله ليس شهر جوع وعطش، يضرب له الناس ألف حساب، فتراهم يتحدثون عن عدد ساعات الصيام ودقائقه، وعن درجات الحرارة في أيامه ولياليه، وبالتالي عن وسائل “قتل” الوقت فيه…بل يتحول إلى هدف، إلى رجاء يسأل العبد مولاه أن يبلغه إياه، ويبين الحبيب المربي أهمية هذا الشهر المنتظر برغائب تشرئب إليها أعناق المؤمنين وتهفو إليها أرواحهم، فلا يحسون في رمضان جوعا ولا عطشا، بل يرون في أبواب الجنان قد فتحت، وأجور الأعمال قد ضوعفت، والمردة قد صفدت، وليلة القدر قد دنت، ومغفرة الرحمن قد أزلفت، وصحف العتقاء من النار قد أعدت…
ما كان يقوله إذا رأى الهلال.
روى الطبراني عن ابن عمر قال: «كان رسول الله إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربّنا وربّك الله».
وروى الطبراني -بسند حسن- عن رافع بن خديج قال: كان رسول الله إذا رأى الهلال قال: «هلال خير ورشد». ثم قال: «اللهم إني أسألك من خير هذا الشهر وخير القدر، وأعوذ بك من شره»، ثلاث مرات.
والأحاديث في الباب كثيرة، وهي تدل على أمور منها:
فرح الحبيب بهذا الشهر ودعائه بأن يصيب فيه من خيري الدنيا والآخرة.
ويبين لنا أن هذا الشهر شهر الأمن الإيمان والسلامة والسلام، شهر الخير والرشد، شهر التوفيق لما يحب المولى ويرضى.
كيف كان فطره .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “كَانَ الرسول يَحُضُّ عَلَى الْفِطْرِ بِالتَّمْرِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ، هَذَا مِنْ كَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ وَنُصْحِه لهِمْ، فَإِنَّ إِعْطَاءَ الطَّبِيعَةِ الشَّيْءَ الْحُلْوَ مَعَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ أَدْعَى إِلَى قَبُولِهِ وَانْتِفَاعِ الْقُوَى بِهِ، وَلَا سِيَّمَا الْقُوَّةُ الْبَاصِرَةُ، فَإِنَّهَا تَقْوَى بِهِ، وَحَلَاوَةُ الْمَدِينَةِ التَّمْرُ، وَمُرَبَّاهُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ قُوتٌ وَأُدْمٌ وَرُطَبُهُ فَاكِهَةٌ. وَأَمَّا الْمَاءُ فَإِنَّ الْكَبِدَ يَحْصُلُ لَهَا بِالصَّوْمِ نَوْعُ يُبْسٍ. فَإِذَا رُطِّبَتْ بِالْمَاءِ كَمُلَ انْتِفَاعُهَا بِالْغِذَاءِ بَعْدَهُ. وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْلَى بِالظَّمْآنِ الْجَائِعِ أَنْ يَبْدَأَ قَبْلَ الْأَكْلِ بِشُرْبِ قَلِيلٍ مِنَ الْمَاءِ، ثُمَّ يَأْكُلَ بَعْدَهُ، هَذَا مَعَ مَا فِي التَّمْرِ وَالْمَاءِ مِنَ الْخَاصِّيَّةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي صَلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا أَطِبَّاءُ الْقُلُوبِ.
وَكَانَ يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، وَكَانَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبَاتٍ إِنْ وَجَدَهَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ”.
وكان يعجل الفطر: روى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن رسول الله كان يعجّل الفطر، ويؤخّر السّحور».
وروى ابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان عن أنس قال: “ما رأيت رسول الله قط يصلي حتى يفطر ولو على شربة ماء”.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والدارقطني وصححه، عن أنس قال: «كان رسول الله يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فتمرات فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء» (2).
د. يوسف العلوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>