التعليم التربوي بين قيم الوحي وخدمة السوق!


لم يكن اهتمام الوحي في بداياته الأولى بمسألة التعليم والتعلم فلسفة مجردة، ولا كانت قضيته مفصولة عن الواقع الوجودي وملابساته الحضارية والإنسانية، بل كانت –وستبقى- ضربا في عمق التدافع الحضاري وصورة جلية تحكي ماهية الإنسان المتشكلة من الروح والنفس. تعد هذه الصورة مرآة حقيقية تعكس كون الإنسان حيوانا قد منح روحا أعني حرية على حد تعبير عملاق البوسنة علي عزت بيغوفيتش.
وتلك هي المعادلة الحضارية التي دارت بين طرفيها جل الحروب الفكرية والصراعات العقدية المفتعلة في أغلبها قديما وحديثا. أعني: بين طبيعة الإنسان المادية وبين روحيته وحريته.
فلا عجب إذن أن نلفي أول ما نزل من القرآن مشيرا إلى حضور البعد السماوي الإلهي في طلب العلم وممارسة عملية التعلم للقضاء على كل تناقض أو ازدواجية، على اعتبار أن الله تعالى رب كل مخلوق وخالقه ومدبر أمره. قال تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق (العلق: 1-2). فكون الله خالقا هو أول شعور الإنسان بالحرية والاختيار والمسؤولية، وأن كل إبداعاته في التعلم والفن والفكر إنما انبثقت من فعل الخلق. فكان اختزاله في طرف واحد هو المادة؛ يعد نسفا لهذا المبدأ العظيم.
لقد كان صدر سورة العلق تنبيها إلى أن منظومة العلم محملة بروح الإيمان بالغيب، متجذرة في قضية الخلق الإلهي باعتباره الفعل الخاص بالله الخالص له المعجز في الإنسان، بصورة تجعل هذا الإنسان عبدا لله مختارا، وليس شيئا أو آلة أو حيوانا ذكيا يتطور ويزدهر فقط بتطور ذكائه الصناعي، وبقدر تطور اقتصاد السوق، كما رشحت به الفلسفة المادية قديما، وبات العالم العربي اليوم في خضوع أعمى لها دون شعور أو إحساس!.
أولا: المهمة المتناقضة في التربية والتعليم:
التعليم لا ينفصل عن منظومة التربية الإنسانية، فهما معا فيض من نبع الأحاسيس والشعور والقيم. والإنسان منذ العصور القديمة كان مدعوا بحكم فطرته الساذجة البسيطة إلى تعلم ما لم يعلم من الحكم والأسرار والقيم الباطنية الشعورية التي لا تخضع للقياس والملاحظة. بل ساقها القرآن الكريم في سياق الامتنان على الخلق لعظمتها في غير ما سياق. قال تعالى في السورة نفسها: علم الانسان ما لم يعلم (العلق: 05). وقال: : يوت الحكمة من يشاء ومن يوت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا (البقرة: 269). وقال بخصوص العلاقات الإنسانية: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 14). والتعارف مقصد جليل في القرآن الكريم نابع من الإحساس بالقيم والمبادئ السامية العليا الراجعة إلى الأخوة والعدالة والعبادة والجمال… وهذه كلها قيم عاشتها الإنسانية منذ الأزل فضلا عن مركزيتها في التصور الإسلامي وكلياته.
وجعل العقل في الإنسان نعمة للتفاعل الحر مع الكون، فهو حاكم على الطبيعة وليست الطبيعة حاكمة عليه، وقد كرمه الله الكريم الحكيم به ضمن سلسلة من مظاهر التكريم الإنساني. قال: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70).
من هنا بدأ أول تناقض في قضية التعليم والتربية في مؤسساتنا المعاصرة، لقد بدا واضحا تلاشي حرية التعليم التربوي، وأصلها التوحيدي التعبدي التكريمي في ظل متطلبات اقتصاد السوق التي فرضها الغرب بعولمته الكاسحة. إن تطور وسائل الإنتاج والرفع من قيمة الاقتصاد، والتسابق المهول نحو التسلح والسيطرة على المجالات الحيوية لغزو الأرض والجغرافيا بالشركات والمعامل؛ هذه كلها غدت هي العنوان الرئيس للسياسة الدولية المعاصرة، فلا جرم أن كان عالمنا التابعُ خاضعًا كرها لا طوعا لطبيعة هذه السياسة، متناسقا رغم أنفه مع هدفها. من ثم كان إعداد النشء وتربيته منذ الطفولة وبداية الوعي إلى أن يتخرج الشاب (مواطنا صالحا) منضبطا عقله إلى قواعد الإنتاج والاستهلاك، متقوقعا تحت عبودية الخدمة للسوق، تماما كالسلعة المعروضة للتعاقد والتمويل! وأيُّ قيم حفت وصاحبت؛ فهي جانبية يُتدرب عليها بقدر التدرب على الإنتاج، فهي تحفز في الفرد قوى دافعة من الخبرات، وتحدث قرارا لصالح الخير عن طريق النصيحة والمشاهدة.. ولا يمكن تغيير الإنسان بغير هذا الأسلوب! .
ففي الفضاء المؤسساتي التربوي يستطيع المعلم/ الأستاذ – وقد صارت له وظيفة المروض!- أن يدرب التلميذ/ الطالب على اكتساب ذكاء خارق بتنمية مهاراته في التعامل مع المعادلات المعقدة والقواعد الصناعية الدقيقة لفك ألغاز الظواهر التجريبية المادية، وقد يحصل على امتيازات وأوسمة مشرفة في المستقبل جزاء اختراعاته في مجالات الصناعة والاقتصاد والخبرات…
وقد يصاحبه الترويض حتى وهو مواطن ناضج! إذ لا يغيب عنا ما صار متداولا بين موظفي الشركات والأسواق اليابانية الكبرى في العشريات الثلاثة الأخيرة، إذ بات الموظفون يتدربون على اكتساب مهارات أخلاقية لاستقبال الزبناء، تحضرني هنا طرفة وضع قابض الشعر بين أسنان الموظفات الإناث ترويضا لإبقاء الفم مفتوحا قصد تعلم الابتسامة المتواصلة! وقد ترتب على مثل هذه الأخلاق التجارية تطور هائل وازدهار ملحوظ في مؤشر الصادرات والواردات والاهتمام بالسلع اليابانية على المستوى الدولي! في حين تخبرنا المذكرات التاريخية اليابانية أن ثلاثة عشر روائيا وكاتبا يابانيا أقدموا على الانتحار سنة 1973م. وهي ظاهرة اكتسحت مفكرين وشعراء يابانيين على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. إن هذه المأساة التراجيدية للثقافة اليابانية قد تزامنت كما يقول بيغوفيتش مع اختراق الحضارة الغربية والأفكار المادية للثقافة اليابانية التقليدية .
والسبب في هذا كله هو اعتبار العلم -بمعناه التقني المادي- هو موجب التحضر والأكثر قدرة على المسايرة والأكثر كفاءة… وأما التعليم -بمعناه الإنساني القيمي- فليس من ورائه طائل، إذ هو ليس سوى ارتماء في محضن التلهي بخواطر الأدب والشعر والدين والفلسفة!. وإن أي محاولة لتعلم القيم والسلوكات الحسنة فذلك كله له بعد غائي تطبعه المادية والربح والتجارة!.
واليوم أصبح الكل يريد الالتحاق بالتطور الاقتصادي الياباني لما حقق من أرباح مادية وسيطرة على السوق العالمية! في الوقت الذي يزداد فيه تفاقم عجز الخبراء والتربويين عن التفكير في رصد برامج ومذكرات لتربية تعليمية تجس الأحاسيس وتروم الصدق الإنساني والإخلاص في المهمة وربطها بالوظيفة الكونية الإنسانية كما أرادها خالقها، وتخريج نشء متشرب للقيم الدينية والجمالية التي استخلف في الأرض من أجلها؛ لبث روح الحنين والتخفيف من الأوجاع النفسية والأمراض العصبية المعاصرة التي ليست سوى مرآة لتطور المادة والمبالغة في الخنوع لها!.
ثانيا: من تداعيات الأزمة:
< تفكك نسيج الرحم في الأسرة:
الأسرة وشائج مترابطة وعلاقات ذات بعد رحمي تأبى التفكك، بهذا وصف القرآن الكريم المنظومة مضفيا إليها نعمة التكافل والإنسانية: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا (النساء: 01).
بيد أن نظرة الآباء الميسورين التربوية -خاصة- ذات البعد التجاري المادي صارت مهددة للمنظومة بالتفكك والانحلال. إن تسابق أولياء الأمور في عالمنا العربي والإسلامي إلى إلقاء أبنائهم في مدارس التعليم الخاص في ظل الأزمة الشاملة التي اجتاحت التعليم العمومي، وتهيئتهم لاحتلال مناصب عُلْيَا تخدم الاقتصاد المحلي خاصة؛ إنما هو انعكاس لقلق وجداني خفي خشية الفقر والخصاصة وضياع السمعة، وإن أُلبست الوظيفة جلباب التربية على المواطنة الصالحة والخدمة للبلاد!.
وحيث تضيع المحاولة وتحول الظروف والأقدار دون تحقيق البغية في منظور الأب لعدم امتلاك ابنه مهارات التميز وقدرات التفوق؛ تسود نظرة متشائمة، وتخيم بظلالها على كل الأسرة، ويغدو الولد مستهدفا للمَعَرَّة من قبل محيطه الاجتماعي الذي لا يؤمن إلا بالمادة!. فلا يلبث الولد -طفلا أو مراهقا- حتى يصير مجبرا على العقوق والتمرد، وتكون النهاية بالنسبة للأب هي الرمي به في دور العجزة حيث يشيخ وتنتهي مهمته!.
هذه الدراما التراجيدية هي نهاية منطقية لمسلسل الأحداث التي شهدتها عملية التعليم والتربية.. وهي تكريس في نهاية المطاف لا شعوري للفلسفة المادية الوضيعة التي اختزلت الإنسان في بعده المادي، وجردته عن إنسانيته التي وهبه الله إياها مذ خلقه أول مرة. وجعل حق الخالقية دالا بالضرورة على تحرر الإنسان من عبودية الأشياء والطبيعة، وخضوعه التعبدي الأوحد لخالقه.
< انتشار التدين الشهواني التجاري:
هي حقيقة لطالما نبه عليها بالعبارة تارة، وبالإشارة تارة أخرى عمالقة الفكر الحضاري مثل مالك بن نبي وسيد قطب والمودودي والنورسي وبيغوفيتش… وغيرهم؛ بل هي فكرة ضاربة في عمق الكليات القرآنية التي نبهت غير ما مرة إلى خطورة ترنح الإنسان بين السرور والفرح إبان حصوله على اللذة، وبين التمرد والعصيان لرب العالمين عند فقدانها!.
إن اتخاذ الدين شهوة تجارية معناه؛ فرح الإنسان بحصوله على الثروة وتكديسها أو إنفاقها بشكل مفرط في اهتماماته الشخصية المادية، الشيء الذي يعوق ملكة التواصل مع الآخر المحتاج ويحجب الطريق نحو تحقيق التكافل الاجتماعي والتعاون والإيثار وغيرها من قواعد المثل العليا التي جاءت بها وقررتها نصوص الوحي قرآنا وسنة. فهو متى حصل على إشباع تام لغريزته راح في لذة عارمة قد تدفعه إلى ممارسة بعض الشعائر التعبدية ذات الطابع الاجتماعي مثل الصلاة والحج.. وغيرهما. مما يكسب الإنسان سمعة حسنة في الظاهر؛ بيد أنه وبمجرد ابتلاء بسيط بنقصان شهوة أو وطر؛ يصير مضطرا إلى ثورة متوحشة على تلك الشعائر وتوديعٍ لها بعدما كانت الأمل الوحيد في إعادة بصيرته إليه، فيخضع للوساوس والاضطرابات النفسية والاجتماعية.. وهكذا يغدو المتدين مترنحا بين عدمية الشعور الإيماني ووجودية اللذة المادية المتوحشة!.
ثالثا: عود على بدء:
يبقى الملاذ الوحيد للإنسان لإنقاذ نفسه وأسرته ومحيطه من هذا الضياع في متاهات المادية والشرود عن باب الله هو البحث من جديد عن مكانه الصحيح في الوظيفة الكونية الاستخلافية التي أُهبط الأرضَ من أجلها كما رسمها القرآن الكريم.
إن كليات القرآن تنبه الإنسان إلى أن متع الدنيا وطيباتها وزينتها إنما نصبت بالقصد الأصلي للاستمتاع المتوازن بالتحكم فيها عبر مسلك الشكر لخالقها، والشكر عملية وجدانية شعورية إيمانية تعبر عن الامتثال التعبدي للخالق باعتباره خالقا. في هذا الإطار أطرت عمليتا التربية والتعليم أول مرة في الوحي كما سبق التنبيه عليه ابتداء. فهما عمليتان تقتضيان لزوما -وبموجب خلق الإنسان حرا مختارا- عدم الخضوع إلا لخالق الإنسان معلمه الأول كيف يقرأ وكيف يرتقي بقراءته، وليس يتقهقر وينحط أسفل سافلين حيث ظلمات الشهوة والهوى المتلاطمة في حفر الطبيعة المادية. ولا عاصم إلا الله.
ادريس التركاوي
——————
علي عزت بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة محمد عدس، طبع مؤسسة العلم الحديث، بيروت، ط.1، 1974: ص81.
2 بيغوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، مرجع سابق، ص: 142. وانظر: – فريد الأنصاري، القرآن الكريم روح الكون ومعراج التعرف إلى الله، مجلة حراء اسطنبول، ع 10، 2008م، ص 14.
- بيغوفيتش، مرجع سابق: ص187.
- بيغوفيتش، مرجع سابق: ص137.
- في بلدنا المغرب أعلن رئيس الحكومة المغربية مؤخرا عن اهتمامات الحكومة المتوالية بأصحاب الشواهد العلمية والتقنية مثل الطب والاقتصاد والرياضيات… وأن شعب العلوم الإنسانية مثل الأدب والدراسات الإسلامية والفلسفة .. باتت فرصها ضئيلة في التوظيف لعدم خدمتها لاقتصاد السوق !! .
- فريد الأنصاري، سيماء المرأة في الإسلام بين النفس والصورة، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 2010م، ص18.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>