عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» (صحيح مسلم).
إن هذا الحديث قد ثبت بلفظ: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء»، وقد انفرد به البخاري، وورد بلفظ: «فتحت أبواب الجنة»، وهي الرواية المتفق عليها، أما رواية «فتحت أبواب الرحمة» التي اعتمدتها في هذا المقال لمناسبة العنوان، فهي صحيحة، وقد انفرد بها مسلم (1). وبالتأمل في المعنى العام لهذه الروايات الثلاثة، نجدها تتفق في كون رمضان شهر الرحمة الشاملة لشؤون الصائم دنيويا وأخرويا، ولها تجليات متعددة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1- في رمضان تفتح أبواب الجنة للصائمين:
قال : «إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة»، قيل إن الرحمة هنا من أسماء الجنة، فتكون هذه الرواية مفسرة لرواية «تفتح أبواب الجنة»، واختلف العلماء في بيان المقصود من فتح أبواب الجنة في رمضان، قيل أنها تفتح حقيقة تعظيما لدخول شهر رمضان، وقيل تفتح مجازا؛ أي أن هذا الشهر يكثر فيه الأجر والثواب فيرحم الله فيه عباده الصائمين (2). قال القاضي عياض: “ويحتمل أن يكون عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات التي لا تقع في غيره، كالصيام، وفعل الخيرات، والانكفاف عن كثير من المخالفات، وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها” (3).
ففي جميع الاحتمالات نجد أن رحمة الله تعالى مفتاح الجنة، كما ثبت في الحديث: «لن ينجي أحدا منكم عملُه» قالوا: “ولا أنت يا رسول الله؟” قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته» (صحيح البخاري). ومن رحمة الله في هذا الشهر المبارك أنه خصص للصائمين بابا في الجنة، قال : «في الجنة ثمانية أبواب، فيها باب يسمى الريان، لا يدخله إلا الصائمون» (صحيح البخاري)؛ لأنهم تركوا كل شهواتهم خوفا من الله، وخضوعا لأوامره، فأعطيت لهم رحمة خاصة في هذا الشهر الكريم تقودهم للدخول من باب الريان، وتحصيل هذه الرحمة الخاصة متوقف على شرطين:
أولهما: العمل الصالح؛ من صيام وقيام، واستغفار، وذكر لله، وقراءة للقرآن…
ثانهما: ترك الممنوعات من قول فاحش، وكذب، ونميمة، وتجسس… طيلة هذا الشهر المبارك، وليس كما يفعل بعض الناس الذين يتركون الممنوعات بالنوم في النهار، ويمارسونها في الليل أضعافا مضاعفة، فتصير ليالي رمضان مناسبة لتعاطي المخدرات، ولعب القمار، وحضور السهرات الماجنة في الأماكن العامة والخاصة، فيحج إليها الناس بعد الإفطار مباشرة، ولا يعودون إلا مع اقتراب السحور، فيأكلون وينامون، فإلى أي رحمة يسعى هؤلاء؟.
2 – في رمضان تغلق أبواب جهنم وتقيد الشياطين:
قال : «وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين» قيل معناه؛ أن الناس يكفون عن الذنوب المؤدية إلى دخول جهنم، وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيكونون كالمصفدين، فيمنعون من أشياء دون أشياء ولناس دون ناس (4).
ومن هذا المنطلق؛ نفهم لماذا يقع بعض الناس في المعاصي رغم أن الشياطين مصفدة، ويكثر منهم النزاع والشجار لأسباب تافهة، بل معظم جرائم القتل تقع من الفساق في رمضان بدعوى أنهم صائمون، فيتساءل الإنسان لماذا يقع كل هذا مع أن الشياطين مصفدة؟ فالجواب كما ذكر القرطبي، أن تصفيد الشياطين يكون بالنسبة للصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، وأن المقصود من تصفيد الشياطين؛ أن إغواءهم وشرهم يقل، كما أن للشر والمعاصي أسباب أخرى راجعة إلى النفوس الخبيثة، والعادات القبيحة، وشياطين الإنس(5).
فإذا ثبت هذا؛ تبين أن الصائم مطالب بإصلاح نفسه وتطهيرها من الخبائث التي علقت بها، وفرصته في ذلك شهر رمضان لقوله ﷺ : «الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين» (صحيح البخاري). فمشيئة الله اقتضت أن يكون صيام رمضان المؤدى على وجهه الشرعي وقاية من المعاصي، وحفظا من إغواء الشياطين، ومنجيا من النار التي غلقت أبوابها رحمة بالصائمين؛ لأن الصيام ليس المقصود منه الكف عن شهوتي البطن والفرج فحسب، بل ينبغي أن يجعل المسلم يجدد الصلة بالله تعالى ويعود إلى الطريق المستقيم، لقولهﷺ : «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (صحيح البخاري).
3 – في رمضان يتنافس الصائمون على الطاعة وأفعال الخير:
في شهر رمضان يزرع الله الرحمة في قلوب عباده الصائمين، وتحيى معاني الإيمان في نفوسهم، فيسارعون إلى فعل الطاعة فتعمر المساجد بالمصلين القائمين، والمعتكفين المستغفرين، وتظهر في المجتمع مكارم الأخلاق، فيصلون الرحم، ويحسنون إلى الجار، فنلاحظ التعاون بين المسلمين يتم بكل أشكاله وصوره حتى داخل الأسرة في الأعمال المنزلية. ناهيك عن الأعمال الاجتماعية التي يقوم بها الصائمون؛ إذ تنبعث في نفوسهم رغبة في العمل التطوعي، فيقدمون يد المساعدة للآخرين إما بشكل فردي، أو بشكل جماعي، كموائد الإفطار، والحملات الطبية المجانية، وتوزيع بعض المواد الغذائية، وهذا أمر لا ننكره لأنه واقع، مما يعنى أن ظهور تصرفات تضامنية منهم تعبيرا عن محبتهم ومودتهم ناتج عن رحمة الله بهم، الذي لين قلوبهم ولطفها، فصارت تتنافس على التعاون في أوجه البر والخير.
ولعلّ من أسباب ضعف الرحمة في غير رمضان كثرة الشبع؛ لأنه يورث الكبر والطغيان، ولذلك جاء شهر الصيام ليكسر هذا الجموح، ويحطّم هذا التجبر، فالصائم من أرحم الناس؛ لأنه ذاق الجوع، وعاش الظمأ، وعانى المشقّة، فطفقت نفسه تسعى لرحمة المسلمين والرأفة بهم، تأسيا بالرسول ﷺ : “الذي كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان… أجود بالخير من الريح المرسلة” (صحيح البخاري). فرحمة الله واسعة لا يحصرها زمان ولا مكان، لكن نظرا لمكانة هذا الشهر المبارك ولمنزلته عند الله، فإن وجودها الحسي يظهر للعيان، وما ذاك إلا جزء واحد من رحمة الله العظيمة، وصدق رسول اللهﷺ حيث قال: «إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار» (صحيح البخاري).
4 – في رمضان تطهر الروح ويصح البدن:
في رمضان تنعم روح المؤمن الصائم بالسكينة والاطمئنان، وتشعر بلذات التقرب إلى الله فتشملها الراحة ويعمها الأمن؛ لأن الصيام المؤدى وفق ما أمر الله يطهر النفس من القلق والاضطراب، والوسواس والاكتئاب، ويجنبها أسباب الهم والغم، وداء الحقد والحسد، فتغشاها رحمة الله فتستقر وتهدأ. فهي بفضل الصيام في فرح دائم وسرور متجدد لقوله : «للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه» (صحيح مسلم).
هذه الرحمة الروحية الرمضانية، تنضاف إليها رحمة ربانية بدنية؛ فالصيام وسيلة لتنظيف الجسم من الفضلات الزائدة، ومن بعض الأمراض الخبيثة، وقد روي أنه ﷺ قال: «وصوموا تصحوا» (الطبراني في الأوسط). فهذا الخبر وإن ضُعف من حيث السند فمن حيث المعنى صحيح، يعضده قول الرسول ﷺ : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم ثلاث أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه» (المستدرك للحاكم)، وقال فيه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقد اتفق الأطباء قديما وحديثا، على أن الصوم الشرعي لما فيه من التوازن والاعتدال في مدة الإمساك عن الطعام والشراب، يقي ويعالج من مجموعة الأمراض التي تصيب البدن، فهو بهذه الخصائص يحقق فوائد صحية كثيرة تحدث عنها أطباء مسلمون وغير مسلمين، منهم الدكتور ماك فادون، وهو أحد علماء طب الكبار في أمريكا حيث قال: “إن كل إنسان يحتاج إلى الصيام وإن لم يكن مريضاً؛ لأن سموم الأغذية والأدوية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض، ويثقله ويقل نشاطه، فإذا صام خفّ وزنه وتحللت هذه السموم في جسمه، بعد أن كانت مجتمعة، فتذهب عنه حتى يصفو صفاء تامًا، ويستطيع أن يسترد وزنه، ويجدد جسمه…”6.
وقد أشار الرسولﷺ إلى بعض الضوابط الشرعية التي لها آثار إيجابية على صحة الصائم، مثل قوله: «تسحروا، فإن في السحور بركة» (متفق عليه). ولا شك أن البركة هنا أخروية ودنيوية؛ لأنها وردت مطلقة في الحديث، كما حث ﷺ على تعجيل الفطور، واعتبره من الخير الذي خصت به هذه الأمة، فقال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» (متفق عليه). وهكذا يجد المسلم نفسه بفضل الصيام في رحمة ربانية شاملة، تدخله الجنة، وتبعده عن النار، وتطهر روحه وبدنه من المرض المادي والمعنوي.
ذ. محمد البخاري
——————
الهامش:
1 – مرقاة المفاتيح، الهروي، دار الفكر، ج4، ص: 1361
2 – إرشاد الساري، القسطلاني، المطبعة الكبرى مصر، ج3، ص: 350
3 – المنهاج شرح صحيح مسلم، النووي، دار إحياء التراث العربي، ج7، ص: 188
4 – شرح الموطا، الزرقاني، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، ج2 ص: 298
5 – فتح الباري، ابن حجر، دار المعرفة، بيروت، ج4 ص: 115
6 – نداء الريان في فقه الصوم وفضل رمضان، أبو التراب بن عبد الله العفاني، دار ماجد عسيري – جدة، ج2، ص:233