افتتاحية – رمضان وحاجة البشرية إلى القيم الإسلامية الإنسانية


يعلم الجميع أن أمة الإسلام هي الأمة الوحيدة بين الأمم التي يعتبر فيها الصيام تشريعا ربانيا تتسابق النفوس فيه إلى الوفاء بحقوق الله تعالى، وتتنافس الشعوب الإسلامية في الامتثال لأوامر الله تعالى فيه اختيارا لا اضطرارا، وله مظاهر جماعية شائعة ومشاعر إيمانية رائعة، وفيه طقوس ودروس؛ طقوس رسَّخت عبر التاريخ الإسلامي أخلاق الإنسانية الفاضلة في أعماق القلوب، وركزتها في أعماق الوجدان الجماعي للشعوب، ودروس في الرسوخ والشموخ؛
رسوخ القيم الإنسانية الأصيلة في التكافل والتضامن والعناية بالفقراء بقلوب تفيض مودة وأخوة وإخاء.
وشموخ في الاعتزاز بها اعتزازا أسهم في صنع حضارة المسلمين الإنسانية العالمية التي لا تخطئها العيون. وبذلك فقد أدرك كثير من العقلاء أن شعيرة صوم رمضان عند المسلمين تشكل بحق أنموذجا لنسق القيم الإنسانية البانية ومدرسة حقيقية للتربية والتخلق، ولعل أهم ما يمكن أن يجسد ذلك ويؤكده:
- قيمة السلم والأمن:
وهي أعظم قيمة إنسانية يتحقق بها الاستقرار والاستمرار، ويحصل بها التقدم والازدهار. وكم عانت البشرية ولا تزال من فقد نعمة الأمن والسلم، وشهر رمضان في شريعة الإسلام من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتل، وحمل السلاح في وجوه الناس، ويمنع فيها ترويع الآمنين إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم (التوبة: 36) بل إنه الشهر الذي لا يتحقق فيه الأمن من العدوان فحسب بل الأمن بكل أنواعه ودرجاته. والحقيقة أن «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (صحيح البخاري)، وقال رسول الله : «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم» (متفق عليه).
بل إن الأمن يعم الأرض كلها بسبب تصفيد الله تعالى لمردة الشياطين قال رسول الله : «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين». (رواه البخاري ومسلم)، فكم تشتد حاجة البشرية اليوم للإيمان بقيم الأمن والسلام على هدي الإسلام كما تؤكده شريعته العادلة وتوجيهاته الفاضلة. وكم هو حري بالمسلمين أن يبادروا إلى حقن الدماء! وأن يكونوا دعاة للصلح وإيقاف الحروب بين الأمم والشعوب!
- قيم التخلق بالأخلاق الجماعية: من التكافل والتضامن والتعاون والتناصر والتناصح:
إن الصيام عامة وصيام رمضان خاصة يربي في الصائم الإحساس تجاه الضعفاء من الفقراء والمرضى وذوي الأعذار من أجل إكرامهم، كما يرسخ فيه روح التعاون مع الأخيار والأبرار للانخراط في رفع الهموم والأكدار ونقل الضعفاء من الإعسار إلى الإيسار، ومن ظلمات الآلام إلى أنوار الآمال. قال : «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (رواه الترمذي وابن حبان، وصححاه). وقال رسول الله : «ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه» (صححه الذهبي في التلخيص).
- قيم السعي في كل الفضائل، والكف عن كل الرذائل:
فتوجيهات الإسلام للمسلم عموما وللصائم خصوصا تصب في مقصد التحلي بكل الفضائل التي تجلب النفع وتدفع الضر، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (البقرة: 183) وقال : «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، كما أرشد الرسول إلى ما يلزم أن يتركه المسلم ويتجنبه من الرذائل المنافية للمروءة والكرامة الإنسانية فقال : «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب»، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ : «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» (صحيح مسلم)، بل نفى عن المسلم هذه الرذائل فقال : «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلا اللَّعَّانِ وَلا الْفَاحِشِ وَلا الْبَذِيء» (الأباني: صحيح الترمذي).
ولئن كانت الأمة قد ضعفت في هذه القرون الأخيرة عن التخلق الأمثل بهذه القيم وانتشر فيها كثير مما ينافي القيم الإسلامية الأصيلة، فهي مطالبة اليوم بالتمسك بأخلاقها الإنسانية التي بها رفع الله تعالى منزلتها بين الأمم.
كما أن البشرية محتاجة إلى الإسلام أولا،
ومحتاجة إلى من يتخلق بأخلاقه ثانيا،
ومحتاجة ثالثا إلى نموذج أخلاق المسلم الصائم عن كل شر،القائم بكل خير.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>