تأملات في قول الله سبحانه وتعالى:شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ


ورد الحديث عن صيام شهر رمضان وأحكامه في موضع واحد من القرآن الكريم، هو قوله تعالى في سورة البقرة:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَة طَعَام مسكِينَ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)..إلى قوله عز وجل:( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (183-187).
ورمضان اسم للشهر الذي اختصه الله تعالى بفريضة الصيام، ولم يذكر في القرآن الكريم إلا مرة واحدة، وقد تعددت أقوال المفسرين في أصل الكلمة في اللغة، وممن استقصى معاني الكلمة، الفخر الرازي حيث قال عن لفظ (رمضان): “اختلفوا في اشتقاقه على وجوه:
الأول: ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار. والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها، فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبها.
الثاني: أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس، والاسم الرمضاء، فسمي هذا الشهر بهذا الاسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته، كما سموه تابعا لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم، وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، وقيل: “سمي بهذا الاسم؛ لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها…”
وبالعودة إلى النص القرآني نجده جاء في خمس آيات: خصت الأولى والثانية ببيان أحكام الصيام، وكذا الأخيرة، بينما اختصت الآيتان بينهما ببيان فضل الشهر وعلاقته بالقرآن الكريم، والحكمة من فريضة الصيام وكذا الحكمة من بعض أحكامه في الآية قبلها، وفضل الدعاء وأنه بين العبد وربه، فقال تعالى بعد بيان فرض الصيام: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون .
ولن نقف هنا عند أوجه القراءة ولا عند أقوال المفسرين في معنى قوله تعالى: أنزل فيه القرآن بل سنكتفي بالقول الراجح الذي ينص على أن المعنى هو أن القرآن الكريم أنزل في شهر رمضان، ونزوله في شهر رمضان معناه، بدء نزوله فيه، أو كما روي عن ابن عباس ، أن القرآن أنزل كله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك متفرقا بحسب الأحداث، كما جاء في معظم التفاسير.
فقوله سبحانه: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ، وافتتاح الآية بقوله: شهر رمضان ، فيه تأكيد على اسم الشهر وتشريفه، فقد ذكر المفسرون الاختلاف في قراءة النصب والرفع، ثم في دلالة الرفع، ومحل شهر رمضان من سياق الآية، من ذلك قول الشيخ أبي زهرة في تفسيره للآية: “وحَدَّ الله سبحانه وتعالى مقدار الصوم بأنه أيام معدودات ليست كثيرة، ولا مرهقة، ولكنها في مؤداها جليلة وهذه الأيام المعدودات التي لَا تتجاوز الحسبة هي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان”.
والذي يدل عليه السياق أن الله تعالى ذكر الشهر باسمه تشريفا له وبيانا لفضله المتمثل في اختصاصه بنزول القرآن، مثل قوله سبحانه في سورة الفتح: محمد رسول الله قصدا إلى تشريف الرسول بذكر اسمه في القرآن الكريم.
ومما يدل على قصد ذكر التشريف بنزول القرآن الكريم ما رواه الإمام احمد، والطبراني والطبري في تفسيره وغير واحد من المفسرين عن وائلة بن الأسقع عن النبي أنه قال: «أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة في الليلة السادسة من رمضان، وأنزل الإنجيل في ليلة الثالث عشر من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان»، فحسب الحديث أن الكتب السماوية أيضا أنزلت في هذا الشهر المبارك.
فشهر رمضان شرفه الله مرتين، مرة بنزول القرآن، ومرة بفرض صيامه على المسلمين، أو لأنه شهر نزول القرآن فرض الله صومه على المسلمين، ومن جميل ما ذكر في العلاقة بين الصيام والقرآن قول الإمام الرازي: “أما قوله: أنزل فيه القرآن اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة، بين العلة لهذا التخصيص، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية، وهو أنه أنزل فيه القرآن الكريم، فلا يبعد أيضا تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبدا يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب، إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية، والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية، ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم، ولهذا قال : «لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن الكريم مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصا بنزول القرآن، وجب أن يكون مختصا بالصوم.
وفي نفس السياق قال الشيخ الشعراوي مبينا العلاقة بين الصيام والقرآن: “وبعد ذلك يعطي له سبحانه منزلة تؤكد لماذا سمي، إنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، والقرآن إنما جاء منهج هداية للقيم، والصوم امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن “.
فالله تعالى شرف الشهر بإنزال القرآن، وشرف شهر نزول القرآن بالصيام، وهذا له دلالة خاصة على المسلمين الذين أنزل القرآن لهدايتهم، وفرض الصيام لتهذيب سلوكهم وتطهير أرواحهم، وفيه توجيه إلى العناية بالقرآن الكريم في شهر رمضان، ولذلك قال تعالى: هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان .
فالقصد أن يرتبط المسلمون في شهر رمضان بسبب هدايتهم الذي هو القرآن، وأن يظلوا على الدوام متذكرين لبدء نزول الوحي الذي به صلاح معاشهم ومعادهم، قال الشيخ أبو زهرة: “وإن اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن، فيه تذكير بمبدأ الوحي، واحتفال بأكبر خير نزل إلى الأرض وهو بعث النبي ، فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية”.
ولقد بحث المفسرون عن السر في إعادة ذكر الهدى في الآية، فهو هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، قال الخازن: “فإن قلت: هذا فيه إشكال وهو أنه يقال ما معنى قوله: وبينات من الهدى بعد قوله هدى للناس ؟ قلت: إنه تعالى ذكر أولا أنه هدى. ثم الهدى على قسمين: تارة يكون هدى جليا وتارة لا يكون كذلك، فكأنه قال هو هدى في نفسه ثم قال: هو المبين من الهدى الفارق بين الحق والباطل، وقيل: إن القرآن هدى في نفسه فكأنه قال: إن القرآن هدى للناس على الإجمال، وبينات من الهدى والفرقان على التفصيل، لأن البينات هي الدلالات الواضحات التي تبين الحلال والحرام والحدود والأحكام، ومعنى الفرقان الفارق بين الحق والباطل”.
ومعنى ذلك،كما ذكره غير واحد من المفسرين، أن قوله تعالى: هدى للناس يشمل القرآن كله محكمه ومتشابهه، بينما قوله: وبينات من الهدى والفرقان فهو خاص في آيات الأحكام، فالأول عام يقصد به أمور العقيدة، والثاني خاص يشمل الأحكام الفرعية.
غير أنه لا يبعد أن يكون إعادة لفظ الهدى مقصودا لأنه خاصية القرآن الأولى، ولا سبيل إلى الهدى إلا بالقرآن، وهذا ما تضمنته إشارات كثيرة في القرآن الكريم، منها المناسبة بين ترتيب سورة البقرة بعد سورة الفاتحة، فبعد الدعاء بطلب الهداية في سورة الفاتحة اهدنا الصراط المستقيم ، يأتي الجواب في سورة البقرة (الم.ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).
وفي آيات الصيام التي سبق إيرادها، تخلل الحديث عن أحكام الصيام قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ فكأن هنا إشارة في غاية الأهمية، تتمثل في أن سلوك سبيل الهداية لا يدركه المرء دون استعانة بالله تعالى، وهنا تأتي أهمية الدعاء، وتتضح الحكمة من ورود آية الدعاء ضمن هذه الآيات الخمس من سورة البقرة، كما توحي الآية بقرب الخالق من عباده حال صيامهم، وقرب العبد من خالقه ومن رحمته وكريم فضله عندما يجمع بين الصيام وتلاوة القرآن.
والخلاصة أن الله تعالى فرض علينا صيام الشهر تشريفا له لاختصاصه ببدء نزول القرآن، فهو يذكرنا ألا نغفل عن القرآن خاصة في شهر رمضان احتفاء بسبب الذكرى أولا، وتجديدا للعهد بنزوله في النفوس ثانيا، واستمرارا في استمداد هداياته ثالثا. فما من سبيل إلى الهدى غير سبيل القرآن.
والله تعالى أعلم وأحكم.
دة: كلثومة دخوش

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>