من أوراق شاهدة – ” مــن هـــمــوم داعــيــة ” 2/2


كم نحتاج من الحمولة الإيمانية لنستطيع بكل أمانة وفعالية تمثل آلام الحبيب المصطفى وهو يبكي وينادي: أمتي أمتي والله  يطمئنه بأنه لن يسوءه في أمته؟
إن النجاح في استحضار هذه المشاعر بقوتها وصدقها لكفيل بأن يشحن الداعية المنشغل بهموم أمته، ويد فعه إلى المرابطة في ثغر التغيير مع إحساسه بحرج المقل.
وإذ يحاسب الداعية الصادق نفسه بكل هذه اليقظة متأسيا بيقظة الحبيب الذي كانت تنام عيناه ولا ينام قلبه، وإذ يضعها أمام المنظار الرباني الدقيق متحرزا من أن يصدق فيه قول الله تعالى: يا أيها الذين أمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون تنتابه موجة هواجس ومخاوف من حركية لا تساوي في ميزان الآخرة جناح بعوضة .. هذا إن تحرى الصدق والإخلاص ما استطاع إليه سبيلا، فكيف به إن كانت أعماله رهينة حضور وتصفيق وانبهار وذكر المخلوق وكفى، فتغدو في ميزان الله  هباء منثورا، وذلك الخسران المبين ..
وتطالعني في السياق هذه المعاني النفيسة للدكتور عبد الكريم بكار من مؤلف له تحت عنوان “المسلم الجديد مقولات قصيرة في بناء الذات” يقول الدكتور بكار: “يستحضر الخلق العاديون إحسانهم إلى الخلق ويشعرون بالمنة عليهم أما أهل النبل والمروءة والسرائر النقية فإنهم يشعرون بأنهم مدينون لأولئك الذين مكنوهم من مساعدتهم وخدمتهم”.
وأجدني أستعرض هذه الخلجات الوجدانية وأنا في ضيافة جديدة للداعية الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله.. ضيافة أمنح فيها شخصي الصغير دعوة لمواصلة التحليق في أجواء سيرته الاستثنائية.
والمبهر في السيرة هو حجم الالتزام الذي رافق هذا الرجل العظيم إلى حد بذله كل وقته وماله لنشر الدعوة في مناطق قال عنها السميط بأنها جد خطرة بمجاهل إفريقيا .. بل قال والغصة تحاصر حلقه وهو في ضيافة مستمعين بكلمة له في محاضرة: “إن مسلمين بمناطق إفريقية يمارسون الزنا بنفس المساجد التي يصلون فيها ويجهلون حرمة الزنا” والطامة: في مسجد! وهناك أئمة لا يحفظون الفاتحة! ومسلمون لا يعرفون أبجديات تاريخهم الإسلامي، فلا هم مسيحيون ولا هم مسلمون! وتجتهد بعثات التبشير من خلال تمويل عملاق لسرقة هوية أولئك المعذبين في الأرض.
وفي المقابل وبسبب نكوص المسلمين في الجانب الإحساني المنظم يسجل الدكتور السميط قلة المرافق الدينية الإسلامية، إضافة إلى العيشة الضنكة لمسلمي إفريقيا وانتشار آفة المجاعة التي قد تفضي بأسر بأكملها إلى الموت جوعا إذ يتعدى حرمانها من الطعام، الأسبوع. وفي السياق يحكي الدكتور السميط أن زوجته البارة كانت هي وأولاده يرافقونه في حياته تلك المتقشفة بإفريقيا وهي المرأة الغنية بإرث أبيها وهو الطبيب المبرز الذي فضل بؤس إفريقيا على بحبوحة بلد ككندا. وأنهم كانوا يسهرون على ضوء النجوم بعد صلاة العشاء لحرمان القرية التي أقاموا فيها بيتهم من الكهرباء. والعجيب أن هذه الزوجة الربانية التي أنعم الله بها على الدكتور السميط سألته ذات جلسة قرب البيت على ضوء النجوم إن كان الله بعد مغفرته لهما برحمته وإدخالهما الجنة بإذنه سيشعران بنفس السعادة والراحة التي تستشعرها وهي برفقته في بيت بدون كهرباء وفي مكان قفر تجلس فيه لتتأمل في ملكوت السماء وعظمة الخالق في تلك الظلمة الحالكة، الشيء الذي جعل الدكتور السميط يستشعر حجم إيمان زوجته وهي في أتم السعادة بمنطقة تفتقد لأبسط سبل العيش الهنيء .. سعادة فسرها الدكتور بالأعداد الهائلة للإفريقيين الذين كانوا يرفعون سبابتهم لينطقوا بالشهادة في حضرة الدكتور السميط وقد تجاوز عددهم سبعة ملايين.
وكما ذكرنا في حلقتنا الماضية فمنجزات هذا الرجل المذهل كبيرة ورصيده وحقينته الدعوية تجاوزت المئات إلى الآلاف من المساجد ومئات الآبار لتوفير الماء لفقراء إفريقيا دون الحديث عن الكم الهائل للمدارس ومراكز الدعوة، ومع ذلك فإن الدكتور السميط لم يفتأ بسبب من يقظته الدعوية المستديمة ينزل المشاريع الخيرية تلو المشاريع بهمة لا تفتر محرضا بحرقة وهمة الداعية الصادق المسلمين، علماء وأطباء ومحسنين لحمل هذا الهم الدعوي وصد المد التبشيري المتفاقم، فعاش ومات بقلب داعية بأمة، رحمه الله تعالى.
ووحده عنوان كتاب الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي رحمه الله “من هموم داعية” أسعفني لأصف غيضا من فيض جهد رجل مخلص لخطى الحبيب المصطفى ، والشيخ الغزالي في كتابه هذا الرائع لفت الانتباه إلى الوجه الآخر المظلم للقمر حين تكلم عن طينة هجينة من الدعاة لا تشبه مطلقا طينة الداعية السميط.
يقول الشيخ الغزالي: “أليس مضحكا أن يدخل داعية إلى مسجد فينظر إلى المنبر ثم يقول بدعة لأنه من سبع درجات ويرى أن يقف على الثالثة لا يعدوها ثم يرى المحراب فيقول أيضا بدعة لماذا لأنه مجوف في الجدار..ثم ينظر إلى الساعة فيقول بدعة لأنها تدق كالجرس”؟؟.

ذة. فوزية حجبـي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>