لآلئ وأصداف – الوراثة الكبرى


قبل أن نقف عند الآيات الخالصة في الوراثة الكبرى، لا بأس من الوقوف عند آية كريمة، احتملت عند المفسرين وجهين، وهي قوله تعالى في سورة الأنبياء 105: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ، وهي آية ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالأرض فيها إنما هو الجنة. فممن قالوا إن الأرض هنا في هذه الآية هي الجنة: يحيى بن سلام (200)، والماتريدي (333) في أحد القولين. وقال الشيخ المكي الناصري رحمه الله، مؤكدا أن الوراثة هنا هي وراثة الجنة: ويقول: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون على غرار قوله تعالى في آية أخرى، حكاية عن أهل الجنة: وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العالمين (الزمر:74).
وتصرف طائفة أخرى معنى الآية إلى أنه لا يمتنع أن يكون له علاقة بوراثة الأرض في الحياة الدنيا. وقال ابن باديس: الأرض : جنس الأرض الدنيوية، لأن هذا اللفظ موضوع لها، فإذا أطلق انصرف إليها، وبهذا فسرها ابن عباس من طريق علي بن طلحة وهي أصح طرقه. وعلى هذا يكون معنى الآية: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ، أي ولقد كتب الله تعالى عنده، وأثبت في قديم علمه الأزلي الذي لا ينسى، ثم أثبت في الكتب السماوية من بعد ذلك أن الأرض لا يعمرها من عباده إلا من يصلح لعمارتها، من أي دين كان وأيّ مذهب انتحل. وإلى هذا ذهب بعض من قال إن الكافر إذا عدل كان أولى بعمارة الأرض من المسلم إذا ظلم، فالعدل مناط الأمر كله، وبه قامت السموات والأرض. ولذلك فصلاح الأرض لا يقوم به إلا الصالحون، الذين يتحرون سنن الله ، فيرثون الأرض لذلك. حتى إذا مالوا عن العدل، وتجانفوا عن الحق، لم يعد لهم الحق في وراثة الأرض، فتنتزع منهم، وتؤول إلى من يقوم بالعدل فيها.
وإلى قريب من هذا كان مذهب الشيخ ابن عاشور، عندما قال: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 105-107) يريد بذلك كله المسلمين… فلو أن قوما غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشؤون رعيتهم بمثل ما أمر الله  به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صورا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسبابا وسننا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله تعالى سننا وقوانين عمرانية، سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله ، يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما مارسوه من شؤون المسلمين من خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله تعالى الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم.
وقد فصل سيد قطب رحمه الله تعالى بعض تفصيل في هذه الآية، بما يتناسب مع منهجه العام في تدبر كتاب الله ، فكان مما قال: فما هي هذه الوراثة؟ ومن هم عباد الله الصالحون؟ لقد استخلف الله تعالى آدم في الأرض لعمارتها وإصلاحها، وتنميتها وتحويرها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والمخبوءة، والبلوغ بها إلى الكمال المقدر لها في علم الله  .
ولقد وضع الله تعالى للبشر منهجا كاملا متكاملا للعمل على وفقه في هذه الأرض. منهجا يقوم على الإيمان والعمل الصالح. وفي الرسالة الأخيرة للبشر فصل هذا المنهج، وشرع له القوانين التي تقيمه وتحرسه؛ وتكفل التناسق والتوازن بين خطواته.
في هذا المنهج ليست عمارة الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود. ولكن المقصود هو هذا مع العناية بضمير الإنسان، ليبلغ الإنسان كماله المقدر له في هذه الحياة. فلا ينتكس حيوانا في وسط الحضارة المادية الزاهرة؛ ولا يهبط إلى الدرك بإنسانيته وهو يرتفع إلى الأوج في استغلال موارد الثروة الظاهرة والمخبوءة.
وفي الطريق لبلوغ ذلك التوازن والتناسق تشيل كفة وترجح كفة. وقد يغلب على الأرض جبارون وظلمة وطغاة. وقد يغلب عليها همج ومتبربرون وغزاة. وقد يغلب عليها كفار فجار يحسنون استغلال قوى الأرض وطاقاتها استغلالا ماديا.. ولكن هذه ليست سوى تجارب الطريق. والوراثة الأخيرة هي للعباد الصالحين، الذين يجمعون بين الإيمان والعمل الصالح. فلا يفترق في كيانهم هذان العنصران ولا في حياتهم.
وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة فهي الوارثة للأرض في أية فترة من فترات التاريخ. ولكن حين يفترق هذان العنصران فالميزان يتأرجح. وقد تقع الغلبة للآخذين بالوسائل المادية حين يهمل الأخذ بها من يتظاهرون بالإيمان، وحين تفرغ قلوب المؤمنين من الإيمان الصحيح الدافع إلى العمل الصالح، وإلى عمارة الأرض، والقيام بتكاليف الخلافة التي وكلها الله إلى هذا الإنسان.
وما على أصحاب الإيمان إلا أن يحققوا مدلول إيمانهم، وهو العمل الصالح، والنهوض بتبعات الخلافة ليتحقق وعد الله ، وتجري سنته: أن الأرض يرثها عبادي الصالحون .. فالمؤمنون العاملون هم العباد الصالحون .
وإلى قريب من هذا يذهب الشيخ جواد مغنية، مع اشتراطه شرطين لوراثة الأرض، وهما الصلاح والكفاءة، فإذا تخلف أحد الشرطين انتزعت الوراثة، وآلت إلى الأصلح والأكفأ. ويربط ذلك بواقعنا المعاصر فيقول: وقانون الحياة لا يأبى ذلك بل يقره ويؤكده، وإذا كانت القوة بأيدي الوحوش الضارية المتسلطة على الأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيره، فإنه لا شيء يمنع أن تتحول القوة في يوم من الأيام من أيدي أهل البغي والضلال إلى أيدي أهل الحق والعدالة، بل إن غريزة حب البقاء والتحرر من الظلم والمبدأ القائل: كل ما على الأرض يتحرك تماما كالأرض وإن دوام الحال من المحال، كل ذلك وما إليه يحتم أن القوة في النهاية تكون للأصلح الأكفأ .
فأما الوراثة الكبرى فيراد منها وراثة الجنة. تلك الوراثة التي ينبغي أن يجعلها المرء نصب عينيه في كل ما يأتي ويذر. بل إن الوراثة الصغرى نفسها لا ينبغي للعاقل أن تكون عنده إلا جسرا للوراثة الكبرى، إذ ما قيمة ملك الأرض العريض إذا ملكه الإنسان ثم خسر نفسه؟ ونحن نقرأ قوله تعالى، من سورة الزمر 15: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهيلهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وقوله  في سورة الأنعام 12: الذين خسروا أنفسهم فهم لا يومنون . وكم من مغتر زعم أنه -إن استخلف في الأرض- ليكونن من المصلحين، ثم لما استخلفه ربُّه نسيَ ميثاقه، وعاث في الأرض فسادا. ولنا في بعض من أخذهم الله تعالى، قديما وحديثا، وهم في عز سلطانهم، أعظم عبرة.
لقد منّ القرآن الكريم، كما رأينا آنفا، على المستضعفين بوراثة الأرض في الحياة الدنيا، وجعلهم أئمة فيها، وبشّرهم بتلك الوراثة، كلما استكملوا شروطها، الواردة في آيات متعددة، ومنها قوله تعالى، في سورة القصص (5-6): ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض . وتلك عاجل بشرى المؤمن. إلا أن القرآن الكريم رغّب أكثر في الوراثة الكبرى، التي هي وراثة الجنة، والتي لا ينبغي أن تكون الوراثة الصغرى غير طريق إليها، وذلك عبر تحقيق العدل بين الناس، والإصلاح في الأرض، والتحذير من العلوّ في الأرض والفساد فيها: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ، لأن ذلك كله طريق إلى الثبور والهلاك في الدنيا والآخرة، ولا يكون ذلك إلا بالغفلة عن الآخرة، وعن ذكر الله تعالى، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (الروم:7). ويرغب القرآن الكريم في الفوز بالوراثة الكبرى، وراثة الجنة. ومن الآيات الناطقة بذلك قوله تعالى في سورة الزمر 74: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ، وقوله تعالى في سورة الزخرف 72: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، وفي سورة الشعراء 85: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيم ، وفي سورة المؤمنون 10: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُون الذين يرثون الفردوس ، وفي سورة مريم 63: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا . فهذه الآيات كلها صريحة بوراثة المومنين الجنة، قال الشيخ جواد مغنية: وأين تراث الدنيا وحطامها الزائل من تراث الآخرة ونعيمها الدائم؟ . إن تلك الآيات الكريمة ترغّب المؤمنين في النعيم المقيم، الذي لا يزول، وتشعرهم بأن الجنة صارت ملكا لهم، إذ الوارث يتصرف فيما ورث تصرف المالك. وذلك كله إن هو إلا تفضل من الله العزيز الحكيم، ملك يوم الدين، على عباده الصالحين.
د. الحسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>