تمدنا وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا الحالي بأنواع وأشكال من القصص الواقعية والصور والتسجيلات المرئية، التي تتحدث عن وفاء الحيوان وهِمَّته وحَدَبِه وذكائه في إنقاذ بني جنسه من الضرر أو من الموت.
فهذا ضفدع يحاول أن ينقذ أسماكا بعد أن جرفتها مياه البحر، وهذه بطة تطعم أسماكا مما يمكن أن يمسك به بمنقارها من البر، وهذا حصان يمد حصانا آخر بالحشائش بعد أن حرمه صاحبه من ذلك، وهذا قرد وذاك قط يحاولان إنقاذ صديقيهما من الموت بمساعدتهما على التنفس، وذاك طائر يقيم بجانب رفيقه في الحياة بعد أن فارقها، إلى أن فارق الحياة هو بدوره… إلى غير ذلك من المشاهد المؤثرة التي تدعو الإنسان العاقل المتدبر إلى أن يقول: سبحان الله الذي وسعت رحمته كل شيء، فبرحمته تعالى يتراحم الخلق فيما بينهم، حتى ولو كانوا من بني الحيوان.
بل إن ابن الحيوان يكون رحيما حتى بابن آدم وأكثر وفاء له، ولعل العديد منا قد شاهد أسودا ونمورا وفهوداً ودِبَبَة، فضلا عن الكلاب والخيل والقطط والطيور وغيرها، كيف احتضنت من أحسن إليها سابقا في وقت الصغر أو في وقت الشدة، وذلك بعد أن فارقته بشهور. احتضنه من باب تلك الرحمة التي بذرها الله تعالى في قلوب الخلق أجمعين. ولعل أشهر قصة في الوفاء، قصة وفاء الكلب الياباني المشهور الذي ظل ينتظر في محطة القطار عودة صاحبه ما يقارب عشر سنوات.
لكن طوائف من بني آدم في عصرنا هذا أصبحت وكأنها كائنات أخرى، كأنها تبادلت المكانة والدور مع بني الحيوان، ليصبح الإنسان أكثر شراسة وعدوانية على أخيه الإنسان، بل وبكل ما يحيط بأخيه هذا، من شجر وحجر، ومستشفيات ومدارس، ودور ومساجد، وملاجئ ومآوٍ؛ تقتيل وتهجير، ترويع وترهيب، تدمير وتخريب، حرق وإتلاف…
مات الضمير الإنساني ليصبح الإنسان أكثر شراسة وفتكا..
مات الضمير الإنساني ليصبح الإنسان مهتما بذاته فقط..
مات الضمير الإنساني فلم يعد الإنسان يفكر حتى في التنديد والاحتجاج..
مات الضمير الإنساني فلم يعد الإنسان يطيق حتى سماع أخبار المآسي، مآسي الإنسان نتيجة لما فعله به أخوه الإنسان، فإذا ما جاء وقت نشرة الأخبار أغلق التلفاز لكي لا تعكر راحتَه مشاهدُ القتل والدمار التي تحدث بشكل بشع، هنا وهناك، في بلاد يقال عنها إنها من بلاد العرب والمسلمين، وكأن المدَنِية الزائفة صنعت منا شخوصا آخرين لا هَمّ لهم إلا المأكل والمشرب ومتاع الحياة الدنيا.
لم يكن الإنسان هكذا حتى في عصور التاريخ التي كانت أكثر همجية وعدوانية ولا أقول حيوانية، فلقد دلت العديد من المصادر على أن الإنسان منذ القديم كان يعتقد أن الإنسان سند للإنسان، ومن ثم تشكلت المجتمعات والدول ونشأت الحضارات. ولقد كان الإنسان العربي السويّ في جاهليته لا يغدر ولا يهتك سترا ولا يقاتل ليلا ولا يقتل غدرا، وإذا كان العربي كذلك فلا شك أن مجتمعات أخرى كانت تتصف بنفس القيم، مما يعني أن استحضار القيم الإنسانية كان دأب ابن آدم منذ القديم.
ولما أظل الإسلام العالمين برحمته، عرفت الحضارة الإنسانية قيما خلقية مثلى، تجلت أساسا في العدل والحرية والمساواة والإخاء وحسن التعامل، فعاش بنو البشر بكل أطيافهم حياة مثالية في ظل حضارة الإسلام. فلقد كان الضمير الإنساني حيّا بين بني البشر أولا، ثم ما بين بني البشر وبين غيرهم من المخلوقات.
ولقد كان من المفروض بعد أن جاءت القوانين في عصرنا الحاضر التي تتحدث عن حقوق الإنسان في العيش الكريم وعن الحرية في التعبير وعن الديمقراطية أن يتعزز الضمير الإنساني بمزيد من الإحساس بالمسؤولية تجاه بني الإنسان الذين يذهبون ضحايا التقتيل والتجويع والتدمير والحصار ونحو ذلك من الوسائل التي تتنكر بالجملة لأبسط قيم الإنسانية.
إن موت الضمير الإنساني ينذر بمستقبلٍ لا يبشر بخير، مستقبلٍ تكون الكلمة فيه فقط لصاحب اليد الطولى وصاحب العصا الغليظة، مستقبلٍ تُنْحَرُ فيه الحرية باسم الحرية، والعدل باسم العدل، والديمقراطية باسم الديمقراطية، وهكذا، إلى أن يُدَمَّر الإنسان باسم الإنسانية.
فهل من عودة لهذا الضمير حتى يشعر الإنسان بإنسانيته، خاصة في مناطق الصراع والاقتتال؟؟ وهل من بعث جديد لهذا الضمير حتى يقول بأعلى صوت للقاتل الظالم: قف عند حدك؟؟.
د. عبد الرحيم الرحموني