وقفات مع الآيات الأولى من سورة المزمل


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ الَيْهِ تَبْتِيلا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا (المزمل: 1 – 10)
إن سورة المزمل مكية في قول الجمهور كما حكاه ابن عطية على خلاف في شطرها الثاني، لذلك تجدها على وزان القرآن المكي تركز على النفس الإنسانية، وتروم إعادة بنائها بناء سليما عقديا ووجدانيا، فتجدها توجه المؤمنين وهم على أبواب المشقات العظام إلى محطات الطاقة الإنسانية الروحانية، وترسم للأرواح السبل إلى معارجها، مما لا يكون للدعوة إلى الله كيان إلا به، في بدايات أمرها أو في نهاياته، فكان أهل “المزمل” ودعوتها على مدار التاريخ هم أهل الدعوة، وأهل الليل، وأهل التزكية، ومن لم يكابد “المزمل” لم يتميز.
يقول ربنا سبحانه وتعالى في مطلعها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ الَيْهِ تَبْتِيلا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا .
المعنى العام للآيات:
فهذه الآيات الأول كما يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: تبدأ بالنداء العلوي الكريم بالتكليف العظيم، وتصور الإعداد له، والتهيئة بقيام الليل، والصلاة، وترتيل القرآن، والذكر الخاشع المتبتل. والاتكال على الله وحده، والصبر على الأذى، والهجر الجميل للمكذبين، والتخلية بينهم وبين الجبار القهار صاحب الدعوة وصاحب المعركة !.. يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ المزمل: المتغطي بثيابه كالمدثر، وهذا الوصف حصل من رسول الله حين أكرمه الله برسالته، وابتدأه بإنزال وحيه بإرسال جبريل إليه، فرأى أمرا لم ير مثله، ولا يقدر على الثبات له إلا المرسلون، فاعتراه في ابتداء ذلك انزعاج حين رأى جبريل ، فأتى إلى أهله، فقال: “زملوني زملوني” وهو خائف وَجِل، ثم جاءه جبريل فقال: اقرأ فقال: «ما أنا بقارئ» فغطه حتى بلغ منه الجهد، وهو يعالجه على القراءة، فقرأ ، ثم ألقى الله عليه الثبات، وتابع عليه الوحي، حتى بلغ مبلغا ما بلغه أحد من المرسلين.
فأمره بالقيام؛ ومن رحمته تعالى، أنه لم يأمره بقيام الليل كله، بل قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ؛ ثم قدر ذلك فقال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْه ، أي: من النصف قَلِيلا بأن يكون الثلث ونحوه. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي: على النصف، فيكون الثلثين ونحوها. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ، فإن ترتيل القرآن به يحصل التدبر والتفكر، وبه تحرك القلوب، ولذلك كان الأمر بالتعبد بآياته، والتهيؤ والاستعداد التام له، فإنه قال: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ، أي: نوحي إليك هذا القرآن الثقيل، أي: العظيمة معانيه، الجليلة أوصافه، وما كان بهذا الوصف، حقيق أن يتهيأ له، ويرتل، ويتفكر فيما يشتمل عليه.
ثم ذكر الحكمة في أمره بقيام الليل، فقال: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ أي: الصلاة فيه بعد النوم هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ؛ أي: أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن، يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار، فإنه لا يحصل به هذا المقصود، ولهذا قال: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ؛ أي: ترددا على حوائجك ومعاشك، يوجب اشتغال القلب وعدم تفرغه التفرغ التام.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: فأمره هنا بأشرف العبادات، وهي الصلاة، وبآكد الأوقات وأفضلها، وهو قيام الليل.
ثم قال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامل لأنواع الذكر كلها، وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ؛ أي: انقطع إلى الله تعالى، فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرب إليه، ويدني من رضاه.
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وهذا اسم جنس يشمل المشارق والمغارب كلها، فهو تعالى رب المشارق والمغارب، وما يكون فيها من الأنوار، وما هي مصلحة له من العالم العلوي والسفلي، فهو رب كل شيء وخالقه ومدبره. لا إِلَهَ إِلا هُو أي: لا معبود بحق سواه، وهو وحده الذي يستحق أن يخص بالمحبة والتعظيم، والإجلال والتكريم، ولهذا قال: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ، أي: حافظا ومدبرا لأمورك كلها.
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا فلما أمره الله بالصلاة خصوصا، وبالذكر عموما، مما يقويه على تحمل الأثقال، وفعل الثقيل من الأعمال، أمره بالصبر على ما يقول فيه المعاندون له ولما جاء به، وأن يمضي على أمر الله، وأن يهجرهم هجرا جميلا؛ حيث اقتضت المصلحة الهجر الذي لا أذية فيه، فيقابلهم بالهجر والإعراض عنهم وعن أقوالهم التي تؤذيه، وأمره بجدالهم بالتي هي أحسن.
وهذا هو المنهج السديد الذي قامت عليه الدعوة الإسلامية أول الأمر، ويجب أن تقوم عليه اليوم وغدا، وهو أن تتزود الأمة من ليلها لنهارها، صلاة وقياما وترتيلا، وأن تتكيف مع الظروف وتصبر على ما تلاقيه في طريقها.
إشراقات لبعض أهل “المزمل”:
- قم الليل : قيل للحسن البصري: ما بال المُتهجّدين بالليل من أحسن الناس وجوهًا؟ فقال: لأنّهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نُوره.
- إن الذي لا تلتهب مواجيده بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل حقاً.
د. فريد الأنصاري.
- يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قم أول درس يتعلمه حملة الدين.. هو وجوب الانتقال من وضع الاسترخاء.. إلى حالة التأهب والجاهزية.
علي الفيفي.
- قم الليل الليل هو الوقت الأنسب لشحن نفسك بمعاني الإيمان حيث تقل المشتتات، وتذبل الملهيات، ويتيقظ شيء في النفس ينظر إلى السماء. علي الفيفي.
- قم الليل إلا قليلا لم؟ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ما استعين على تبليغ الدين بمثل قيامٍ في الليل وإن قلّ. عمر المقبل.
مستفادات من تلكم الآيات:
1 – سورة المزمل سورة بناء روح الداعية إلى الله، توحيد وإخلاص وذكر وقيام وتبتل وصبر على الأذى ودعوة.
2 – يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أسلوب قرآني.. إذا نودي المنادَى بوصف هيئته؛ فالمقصود غالبا التلطف به والتحبب إليه ولهيئته.
3 – قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا القيام يسكب في القلب أنساً قد لا يجده في صلاة النهار، والله الذي خلق هذ القلب يعلم مداخله، وأي الأوقات يكون أكثر تفتحا واستعداداً.
4 – من الأمور التي تساعد على الدعوة؛ قيام الليل والقران، لذلك أمر الله نبيه يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا … ورتل القران ..
5 – قيام الليل عبادة عظمى ترفع الإنسان لأعلى عليين؛ لأنها عبادة خفية بين العبد وربه، وبها تظهر حقيقة التوحيد..
6 – قيام الليل بعد النوم أدعى لتدبر القرآن والانتفاع به؛ لذلك قال: إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا .
7 – وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا الاعتناء بجودة التلاوة وتحسين الأداء من الأوامر الإلهية والسنن النبوية، و”بالترتيل” يحصل التدبُّر والتفكّر في الآيات.
8 – إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا وصف القرآن بالقول الثقيل ليتمهل القارئ في قراءته ويتعمق في طلب معانيه، وليعظم كل شيء فيه ويتجنب الاستهانة به.
9 – وصف القرآن بالثقل ليناسب حاجة الإعداد لأعباء معركة منتظرة مع ضمائر غارقة في الجهل.
10 – إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا . أفضل أوقات العبادة التي يكون فيها القلب والذهن فارغا، ولذلك كانت صلاة الليل أفضل؛ وقيام الليل يترك أثرا جميلا في القلب؛ لأنه يكون خلوة بين العبد وربه، وبعيدا عن الرياء.
11 – صلاة الليل أعونُ على تذكّر القرآن، والسلامة من النسيان، ولذا قال سبحانهُ: إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا .
12 – إن لك في النهار سبحا طويلا ينبغي للمؤمن أن يتفرغ في الليل لعبادة ربه، وله في النهار وقت كاف لقضاء حاجاته ومصالحه.
13 – الداعية إلى الله إنسان نشيط لا يعرف التكاسل فهو قائم بالليل مصليا، وقائم في النهار بالدعوة إلى الله .
14 – وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا دلّ على أن الذكر ليس باللسان فقط؛ بل هو حضور القلب؛ لأن التبتل الانقطاع الكلي عما عدا الله تعالي.
15 – رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا من كان يعلم بأن الكون كله بيد اللهﷲ هل يبحث عن ضعيف وينزل به حاجته؟!!
16 – وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا الرسول أوذي وهو خير البشرية، فكيف أنت يا من تدعو؟ عليك أن تصبر وتجاهد من غير سخط ولا جزع.
17 – واصبر على ما يقولون بيان لأصول التعامل مع الناس إما الصبر على الأذى أو الهجر الجميل؛ وهو هجر مجادلتهم.
18 – الصبر على أذى الناس أعلى مقاما من هجرهم؛ ولذلك قدمها جل وعلا: واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا .
19 – الأذى الذي يلقاه الداعية في طريقه لن يلطفه ويهونه شيء مثل مناجاة الرب بالقرآن في جوف الليل.
20 – أعظم زاد للداعية على طول طريق الدعوة ومشقتها؛ هو الصلاة وخصوصا في جوف الليل.
مسلك التخلق:
في تأملات للدكتور عبد الرحمن الشهري يقول: إن “المزمل” فيها تقسيم بديع لما ينبغي أن يسير عليه النبي في قضاء وقته اليومي حتى يتمكن من القيام بأعباء هذه الرسالة الثقيلة، وقد رتب الله  فيها المهمات اليومية التي لا ينبغي أن يخلو منها الجدول اليومي للمسلم:
- قيام الليل بالقدر المقدور..
- ترتيل القرآن وليس مجرد القراءة. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا … مع ارتباط ذلك بالليل.. إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئا وَأَقْوَمُ قِيلًا .
- العمل الجاد بالنهار لأنه وقته… إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا .
- الإكثار من ذكر الله كل وقت… وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا .
- التخلق بالصبر في الأمور كلها… وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا .
ألهب الله مواجيدنا وإياكم بأشواق التهجد، وجعلنا من أهل المزمل وكنوزها، والله من وراء القصد.
ذ. ميلود خطاب

——————
تفسير ابن عطية، تفسير السعدي، والظلال لسيد قطب، وتأملات للدكتور فريد الأنصاري، د. عبد الرحمن الشهري، علي الفيفي، وعمر المقبل…

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>