رغبا ورهبا


دموع سواجم على الخد من الخوف رهبا، وأخرى تذرف للرحمة رغبا، وأكف الضراعة رفعت تستمطر قبولا وفوزا ونجاة في عاجلة تنصرم أيامها إيذانا بالآجلة، وبين الخوف والرجاء يعيش الخاشعون الخاضعون، فقد أخبر عنهم الله عز وجل في محكم الكتاب: “إنهم يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين” (سورة الأنبياء 90)
سارعوا في الخيرات مسارعة السائر إلى المقصود الجاد في مسالكه، مدركين سر التوازن في كتاب الله تعالى لذكر كلمة الرغب والرهب، فعلموا أن كلا منهما ذكرت في ثمانية مواضع، فأقاموا التوازن في عباداتهم على معاني الترغيب والترهيب/ والخوف والرجاء” إنهم كانوا يعبدونه رغبة منهم فيما يرجون منه من رحمته وفضله، ورهبا يعني رهبة منهم من عذابه وعقابه، بتركهم عبادته وركوبهم معصيته” يعبدونه خوفا وطمعا، وليس ينبغي لأحدهما أن يفارق الآخر”.
فالرغبة والرهبة هما جناحا المؤمن اللذان يرفعان عمله إلى درجة القبول، ومقامه في الآخرة إلى أعلى عليين، “فلا يقود إلى قرب الرحمان وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفا بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إلا أزّمة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفا بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف”
فإذا سألنا أيهما يحقق به المؤمن السبق إلى مرضاة ربه، الرغب أم الرهب/ الخوف أم الرجاء؟
نجد الإمام الغزالي رحمه الله تعالى يتولى الرد عن سؤالنا بحجته المفحمة قائلا: سؤال فاسد يضاهي قول القائل: الخبز أفضل أم الماء؟ وجوابه أن يقال الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان، فإذا اجتمعا نظر في الأغلب، فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل، وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل، وإن استويا فهما مستويان”
ويستطرد رحمه الله قالا: والخوف والرجاء داءان يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب الداء الموجود، فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل، وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى فالرجاء أفضل. ففضيلة أي منهما بقدر إعانته على طلب السعادة” وهي رضى الله عز وجل والقرب منه، فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة، فضله ثابت من خلال تحقيق هدف الاستخلاف والطاعة والعبودية.
وقد روى مالك بن دينار رحمه الله تعالى أنه قال: إذا عرف الرجل من نفسه علامة الخوف وعلامة الرجاء، فقد تمسك بالأمر الوثيق، أما علامة الخوف فاجتناب ما نهى عنه وأما علامة الرجاء فالعمل بما أمر به، وقيل للرجاء والخوف علامتان فعلامة الرجاء عملك لله بما يرضى، وعلامة الخوف اجتنابك ما نهى الله عنه”.
وازع الرهب وردعه:
فالرهب/الخوف يمنع الذنوب وهو سوط الله تعالى يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل والاستقامة، وهو في حقيقته خوف يفضي إلى تألم القلب واحتراقه من توقع سوء الخاتمة، وهو ينتظم في علم وعمل وحال،
وحاصله معرفة الأسباب المفضية إليه، والتي إذا تحققت أحدثت حالا من الوجل على البدن والجوارح والصفات، وحصل بمقتضاها المواظبة على الطاعات، واجتناب المنكرات. ويمكن تقسيم أنواع الرهب إلى:
الخوف من الله عز وجل: فقد حذر الله تعالى من نفسه في قوله:” ويحذركم الله نفسه” (آل عمران 30)، والخوف من الله يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته، وأنه لو أهلك العالمين لم يبال، ولم يمنعه مانع، وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي، وتارة يكون بهما جميعا. وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه”
فإذا ارتقى العبد إلى معرفة الله خافه بالضرورة ولا يحتاج إلى علاج يجل الخوف إلى قلبه، بل يخافه بالضرورة” وهو خوف العلماء العارفين وازعهم خوف الحجاب عنه ورجاء القرب منه.
الخوف من عذاب الله تعالى: ووازعه الخوف من النار والطمع في الجنة، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف ويقوى بحسب درجة الإيمان صعودا ونزولا، فيقويه الوعظ والتذكير وملازمة التفكر في مآل الإنسان في الدار الآخرة، والنظر في سير الخائفين والاعتبار بأحوالهم.
أما ردع الرهبة عموما فيحصل لسبعة أشياء، ويسِمُها بالاستقامة والصلاح كتجلي لتأثيره فيها وعليها، وبيانه:
على اللسان: فيمنعه عن الكذب والغيبة واللغو فيصير مشغولا بذكر الله وتلاوة القرآن ومذاكرة العلم.

دة. رجاء عبيد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>