خواطر في تدبر القرآن الكريم (3)


يواصل الأستاذ في هذه الحلقة الثالثة سلسلة خواطره في تدبر القرآن الكريم
16 – حينما بايع جماعة من الأنصار رسول الله بيعة العقبة الكبرى على أن يعبدوا الله وحده ويمنعوا رسوله مما يمنعون منه أنفسهم، نزل قول الله تعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (التوبة: 112).
ولكن كانت اﻵية أصلا في الجهاد المشروع في سبيل الله، فقد أعقب الحق سبحانه هذه الآية مباشرة بما يبين صفات المؤمنين المجاهدين حق الجهاد فقال: التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون اﻵمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (التوبة: 113). فهم إذن:
- تائبون من الخطايا.
- عابدون، يقصدون الله بطاعتهم، لم يخرجوا سأما من أوضاع مزرية، أو طلبا لمنافع عاجلة، أو كانوا مجرد ألعوبة تحركها جهات غرضها فتنة المسلمين ليكون بأسهم بينهم بما يخدم أعداء الدين والأمة.
- سائحون، أي صائمون كما في قول، أو هم الذين يضربون في اﻷرض لحج أو جهاد أو طلب علم، أو هم الجائلون بفكرهم في ملكوت الله كما يجول السائح..
- راكعون ساجدون، يؤدون الصلاة فرضا ونفلا.
- آمرون بالمعروف، دعاة إلى الحق والخير على الدوام.
- ناهون عن المنكر، يسهمون في مدافعة الباطل وتقليل مساحة الشر.
- حافظون لحدود الله، فلا يتعدون ما شرع الله تحت أي مبرر، فليس الجهاد في الإسلام غلوا وتشددا يبيح ما تأباه الفطر السليمة واﻷعراف المرعية، فضلا عن المقاصد الشرعية.
إن حفظ حدود الله صفة جامعة للعمل بالتكاليف الشرعية عند توجهها، كما يقول ابن عاشور الذي يضيف: “والمراد هنا والحافظون لما عين الله لهم، أي غير المضيعين لشيء من حدود الله”. ما أحوج كثيرا ممن يرفعون راية الجهاد لوضع أنفسهم تحت مجهر القرآن.
17 – نصب الله لعباده من اﻵيات الكونية ما هو كفيل بالدﻻلة عليه، إن هم نظروا في هذه اﻵيات نظر تفكر واعتبار، لذلك قال الحق سبحانه: إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض ﻵيات لقوم يتقون (يونس: 06).
إنها آيات فصلها الله لمن يستخدمون ما أتيح لهم من العلم ليعرفوا الحكمة من الخلق، ويستدلوا بذلك على عظمة الخالق، فيثمر ذلك النظر العلم أوﻻ، والتقوى ثانيا، فليس المقصود من التفكر مجرد معرفة نظرية أو ترف فكري، إنما هو طريق لتقوى الله و لزوم هديه ومنهاجه، وعليه كان حصر اﻻنتفاع؛ لقوم يتقون».
18 – حين وصل اﻷمر بين نوح وبين قومه إلى الباب المسدود، أخبره الله تعالى أنه لن يؤمن من قومه إﻻ من قد آمن، وأن مصير الذين كفروا هو الغرق، وأمره أن يصنع الفلك فامتثل أمر ربه. قال : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (هود: 38).
فالعجب ممن ينظرون إلى سفينة النجاة تصنع أمام أعينهم جزءا جزء وقطعة قطعة، وهم يسخرون أو ﻻ يبالون، وربما يعرقلون إتمامها وسير العمل في صنعها. أليس هذا حال كثير ممن يشهدون بفساد الأحوال وما تعيشه اﻷمة اليوم من التيه والضياع، فإذا نودي للإصلاح وتجديد أحوال اﻷمة في دينها ودنياها ليكون سفينة نجاة وإنقاذ؛ كان موقفهم أشبه بقوم نوح في التخلف عن الركب، وربما التشويش والتعطيل؟
19 – جعل الله قصة يوسف أحسن القصص في القرآن، بأحداثها وما فيها من الدروس والعبر، ولعل من أعظم ما يستفيده المستفيد ما حكاه الحق سبحانه على لسان يعقوب بقوله: قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما ﻻ تعلمون (يوسف:86).
فهذا نبي من أنبياء الله ابتلاه ربه بفقد الولد ذي المكانة الكبيرة والمحبة العظيمة، فتأسف لذلك وابيضت عيناه من الحزن؛ لكنه حينما عوتب على اهتمامه بأمر ولده يوسف كان جوابه بمثابة القاعدة الذهبية لكل مؤمن محزون في هذه الدنيا إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فهو نفي للتعلق بالمخلوق في تفريج الكرب وتنفيس الحزن، ولجوء إلى الخالق بالشكوى، فيكون المقصود بالشكوى ضراعة إلى الله بالدعاء وسؤال الفرج، وذلك من صميم العبادة؛ ﻷن الدعاء مخ العبادة، ومثل يعقوب كان موقف موسى كما قال تعالى: فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير (القصص: 24).
وقد زاد يعقوب في بيان حاله ومعتقده بالقول: وأعلم من الله ما ﻻ تعلمون ؛ ﻷن من كان في مرتبته أو على نهجه، فهو على يقين من إحسان الله  إليه، ما يوجب حسن ظنه بربه، فهو القائل سبحانه: وقال ربكم ادعوني أستجب لكم (غافر: 60) وهو الذي يسألنا تنبيها وتعليما: أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض (النمل: 64).
فإلى الله بثنا ودعاؤنا..
20 – كما يقدم الطبيب وصفة العلاج ﻷمراض الظاهر، يقدم لنا ربنا وهو الخلاق العليم وصفة العلاج ﻷمراض الباطن، يقول تعالى: الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله أﻻ بذكر الله تطمئن القلوب (الرعد: 29).
إنه خالق القلوب الذي يقلبها كيف يشاء يصف لنا الدواء الذي فيه الشفاء من علل القلوب وأمراضها الباطنة: من الشك والحيرة والبغضاء والحسد والشرك والنفاق وكافة الوساوس الشيطانية واﻷهواء البشرية الزائغة..
في ذكر الله عمارة القلب وسكينته، وفي الغفلة عن الله خراب القلب وقسوته: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (طه: 122).
روى ابن عبد البر رحمه الله في (جامع بيان العلم وفضله) عن علي بن أبي طالب قال: لا خير في عبادة ليس فيها تفقه، ولا في علم ليس فيه تفهم، ولا في قراءة ليس فيها تدبر .
على نهج هذه الحكمة البليغة، وطمعا في تلمس بعض من هذه المقامات كانت هذه الخواطر في تدبر كتاب الله تعالى، استثمارا لأجواء روحانية مباركة، نقدم اليوم ثالث حلقاتها، سائلين الله أن ينفعنا بكلامه في سلوكنا ويصلح به عقولنا ويعطر به ألسنتنا تلاوة وذكرا..
21 – مثل جميل وعظيم ضربه الله للناس في كتابه، قال تعالى: ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار (إبراهيم: 26-28).
إنها الكلمة الطيبة، كلمة الإيمان والتوحيد في قلب كل مؤمن، جعلها الله مثل النخلة الباسقة ترتفع في السماء وجذورها عميقة في الأرض، ينتفع الناس بالتمر الذي يخرج منها وبكل قطعة فيها، بينما الكلمة الخبيثة، مثال الشرك والكفر بالله، ليست سوى شجرة خبيثة، قد تغر الناس بمنظرها ويملأ الفضاء حجمها، فيما هي خبيثة المنتوج هشة الجذور.
ولئن كان المثال يصدق على الطيبين أو الخبيثين كأفراد، فإنه يصدق أيضا على المجموع، فها هي الإيديولوجيات والمذاهب الوضعية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، وربما أقامت دوﻻ وكيانات بالعسف والجور كحال المعسكر الشيوعي سابقا، سرعان ما انهارت داخليا كالشجرة الخبيثة ما لها من قرار لمنافاتها فطرة الله في الإنسان وسننه في الكون، وهاهو شرعه ودينه، رغم ما يحاك له من كيد الليل والنهار، كلما ظنوا فيه موتا وانتهاء، يأبى الله إﻻ أن يجدد ينعه وإثماره، ويبعث الحياة في فروع أصلها ثابت مكين .
22 – أمر يهم جميع الخلق ويجدر بهم تدبره، يقول تعالى: وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (الحجر: 21).
فهذا ربنا وإلهنا، وهو الرزاق العليم، يذكرنا بكون الأرزاق كلها والمنافع جميعها، هي مما استودعه الخالق في خزائنه؛ لكن تنزيلها ومنحها للعباد إنما يتم بقدر معلوم عنده سبحانه، فلا يخضع ذلك لأهواء الخلق ورغباتهم؛ بل للمشيئة الربانية والحكمة الإلهية.
فكيف ييأس الإنسان ويجزع على كفاف رزق أو تخلف مشتهى، وليس ذلك إﻻ مما اقتضته الحكمة والمصلحة، يكفي أن يقول الحق سبحانه: وما ننزله رغم أن كثيرا منه له تعلق بالأرض، لنعلم أن تصريف المقادير إنما يتنزل من أعلى الأعالي كما قال : وفي السماء رزقكم وما توعدون (الذاريات: 22).
يتبع

ذ. أنور الحمدوني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>