إلهي إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أي هم أنوء بأثقاله الجسام، وهواجسه العظام، أم أي حزن يخترق كياني ويلبد بسواده القاتم جناني، أم أي بلاء يكاد ينخلع له فؤادي، ويمزق لصدمته عناني، أنا التي حملت على مر الأحقاب والدهور، ما تنهد له الجبال، وتنشق له الصخور، ووقفت في شموخ واصطبار، أجالد هوج الرياح في البحار.
لطالما بثثت شكواي للحيتان والطيور والمحار، فحنت لحالي، وذرفت مر الدموع حيالي، ورفعت أكف الضراعة للواحد المتعالي، أن يكشف البلوى ويفتح الأقفال، وكفكفت دموعي الغزار، ورحت أستشرف في الأفق البعيد عوالم الحقائق وبواطن الأسرار، وأصغي في خشوع لنداء المصطفين الأخيار، ينساب آناء الليل وأطراف النهار، تفتح له الأزهار، وتصدح لجماله الأطيار، فتتطامن لعذوبته العالية نفسي، وتينع له يابسات غرسي، أليس ذلك النداء موصولا بينابيع الغيث الذي يغسل الأدران، وتزهر به خضر الجنان؟
ثم أواصل الإبحار بيقين وإصرار، أرمم الخروق، وأضمد الحروق، أشق أمواج المروق والفسوق، ولكم أسلخ من أوقات نفيسة في زمني الملغوم، أعالج الأورام، وأكسح الألغام، وأطرد الأوهام، وأرشد الأفهام، كل ذلك والسهام المسمومة تستهدفني من أرضي وسمائي، فتسيل فوارة دمائي، ولطالما استنجدت ملء قواي، حتى بح صوتي وخارت قواي، وتركت حسادي وأعدائي، يشمتون بي ويستمرئون بلائي، ولولا مجالدتي وإبائي، ودماء العزة التي تسكن كياني وأحشائي، للفظت أنفاسي واستؤصلت من أساسي.
ولست أذيع سرا يا أحبتي، إذا قلت لكم بأن أشد السهام وطأة علي، هي تلك الصادرة ظلما من أبناء جلدتي، من ينهشون قصعتي، ويصنعون محنتي، وتعلق على صدورهم مع ذلك نياشين الأبطال، فهل بعد ذلك يا إخوة الإبحار من محال؟ وهل بعده من مرض عضال؟
ولست مع ذلك ممن تلين لهم قناة، فصاحب الحق إذا سيم الخسف يقول بملء فيه لا، فذلك حصن حصين، ضد ركام الباطل المهين، مهما استطال واستطال، ولست بأي حال من الأحوال، ممن يلقون الزمام، لأولي المكر والإجرام، ممن ديدنهم أن يثخنوا في الخروق والجراح، فسأظل أرفع عقيرتي بالصراخ والصياح، عسى أن يصحو النائمون، ويستفيق الغافلون، أصنع هذا من خلال من يركب متني من العقلاء والشرفاء الذين يسري في عروقهم ماء الحياة، ويملكون كلمة السر التي تختزن سر الوجود، وتخفق بها الأعلام والبنود، ويأبون بكل إصرار وعناد، أن يسلموا السفينة للأفاكين والأوغاد، ويضيعوا إرث الآباء والأجداد.
ولست أنكر أنني أعيش يا أحبتي واحدا من أحلك أطواري وأشنع أدواري، فقد رؤي المعروف بين ركابي منكرا ورؤي المنكر معروفا، بل وأُمر بالمنكر ونُهي عن المعروف، بكل بجاحة واستخفاف، وصلف واستكبار، وذلك مما تنبأ به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
إلهي، ماذا يصنع حب الدنيا بأهله الغافلين، بل ماذا يصنع الجحود بالجاحدين؟ وماذا يصنع ذلك كله بسفينة مسكينة تتقطع أنفاسها حينا بعد حين، بل ماذا تملك السفينة من أمرها إذا قلت فيها معادن الصالحين؟
وارهبتاه مما أجاب به الصادق الأمين عائشة أم المؤمنين عندما سألته قائلة: «أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: نعم إذا كثر الخبث».
ليت شعري بأي طعم أستمرئ الحياة في خضم بحر تكاد تبتلعني أمواجه، وبأكوام من الخبث أنوء تحتها، ولا تزداد مع الأيام إلا تفاقما واستفحالا، فهل من مفر إلا إلى من وسعت كل شيء ألطافه ورحماته؟ إنه لا عاصم اليوم من الله إلا من رحم، فلا حيلة لي إلا الاعتصام بأمر الله، ف إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (يوسف: 87). وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون (يوسف:21).
د. عبد المجيد بنمسعود