أحدث بلاغ الديوان الملكي الذي أصدر فيه جلالة الملك محمد السادس تعليماته إلى وزير التربية والتعليم ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بضرورة مراجعة برامج التربية الدينية ومقرراتها بالمدرسة المغربية العمومية وبالتعليم الخاص وبمؤسسات التعليم العتيق، في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعي إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية، تفاعلات وانتظارات.
وفي هذا السياق قدم العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة بحثا أكاديميا وسمه بعنوان: “رؤية في التعليم الديني بالمدرسة المغربية”.
وقد ركز الأستاذ في هذا البحث أول ما ركز على كون قضية إصلاح التعليم الديني هي الأجدر بأي إصلاح قبل كل شيء، قال: “وإذا كان هناك من قضية هي في حاجة إلى المقاربة الجادة التي يمكن أن يقدمها الخبراء والعارفون، فإن قضية إصلاح التعليم الديني تأتي في طليعة القضايا ذات الأولوية، والمطلوب أن يقدم من يتحدث في إصلاح التربية الدينية تصورا مسنودا بأدلته من الواقع ليسهل الاتفاق والالتقاء عليه”.
ومن هذا المنظور قدم بحثه هذا إسهاما منه في هذا الإصلاح، قال حفظه الله: “وفي هذا الإطار فإني أقدم إسهاما يتناول قضايا محددة أضعها بين يدي كل من يشغله أمر إصلاح التعليم الديني، وكل من هو منخرط فعلا في العملية الإصلاحية من أعضاء اللجن المكلفة بها، على أساس أنها لا تعدو أن تكون مساعدة على تكوين تصور عن الإصلاح، واضعا في الاعتبار أن قضية إصلاح التربية الدينية هي من الوجهة الدستورية من اختصاص إمارة المؤمنين التي يعود إليها أمر الحسم الرسمي في قضايا الشأن الديني، ومن ضمنها التعليم الديني حسبما تنص عليه الفقرة 5 من الفصل 41 من الباب الثالث من دستور 2011″.
وقد جاء بحثه هذا أيضا ردا على أولئك الذين رأوا في هذا البلاغ فرصة مواتية للمطالبة بالتقليص من المدى الزمني لتدريس المادة الدينية، أو بحذف عناوين معينة وإحلال عناوين أخرى بدلها، أو الانتهاء إلى استبعاد المادة الدينية من البرنامج الدراسي لو أمكن ذلك. وذريعة هؤلاء هو تحميلهم برامج المادة الدينية مسؤولية نشوء التطرف والإرهاب.
ولإيضاح الصورة وكشف الالتباسات التي حملتها بعض المقترحات المتعجلة كما أسماها، فإنه ناقش قضيتين هما:
الأولى قضية مسؤولية التربية الدينية عن العنف والإرهاب:
في هذه القضية أوضح أن التربية الدينية لا علاقة لها بتاتا بالعنف والإرهاب، وإنما هو ادعاء عار عن الدليل والبرهان، وكل ادعاء عار عن الدليل يعتبر لاغيا، وكل ذلك ناتج عن عدم تحقيق مفهوم العنف والإرهاب، فلا تعدو أن تكون هذه الادعاءات ادعاءات غير موضوعية، على عكس بعض الغربيين الذين كانوا أكثر إنصافا وصرحوا بأن المسلمين كانوا على الدوام مكونا إيجابيا من مكونات المجتمعات الغربية، فلا يمكن تحميل المسلمين أثر فئة محدودة لا تكاد تشكل أي نسبة عددية، كما أن الإحصائيات أكدت أن ما يحصل من حوادث العنف والإرهاب من جهات العالم قد تم على أيدي غير مسلمين، وبنسب عالية وصلت إلى 98% من جرائم الإرهاب في أوروبا و94 % من جرائم الإرهاب في أمريكا قد قام بها أشخاص ليسوا مسلمين، كما ذكرت ذلك ديلي بوست.
وهكذا أعطى الأستاذ مجموعة من الإحصائيات التي تؤكد أن الإرهاب لا وطن له. قال: “إن الحقيقة الجلية هي أن الإرهاب ليس له حدود وليس له عامل واحد ينتجه، لكن أهم عوامله هو تشرب الذهنيات واقتناعها بمنطق العنف والقسوة، هذا العنف الذي يمجد ويرسخ اجتماعيا حينما يمنح الذين يمارسونه جوائز، مثلما نراه في ألعاب المصارعة، وألعاب الملاكمة، ومصارعة الثيران وغيرها من الألعاب العنيفة”
وأما ما يحدث من الإرهاب في البلاد الإسلامية فقد قال عنه: “وبالنسبة للبلاد الإسلامية فإن الإرهاب قد حدث فيها بعد أن سحب عنها غطاء العلم الشرعي، وأفرغت مواقعه وعطلت مؤسساته، فهيأ ذلك طبيعيا لنشوء فكر لا ينضبط بضوابط العلم الشرعي، على قاعدة أن الطبيعة لا تقبل الفراغ”، وقد أعطى أمثلة كثيرة على ذلك.
الثانية قضية إلغاء عناوين معينة من المقررات الدراسية:
في هذه القضية حاول نقض مقترح استبعاد مواضيع معينة من المقررات الدراسية أو التصرف في مضمونها، مؤكدا أن من اقترح هذا المقترح بعيد كل البعد عن المعرفة الشرعية، ولا يعرف كيف تؤسس وتعتمد فيها الحقائق. فكل اقتراح شبيه بهذه المقترحات فهو مقترح غير جدي؛ لأن الناس لا تستقي تدينها من المقرر الدراسي فقط؛ وإنما يأخذونه من مظانه الفقهية التي امتزجت بالذهنية المغربية كما قال. ليخلص في هذه النقطة بالذات إلى أن: “الخطر على الأمة لا يأتيها أبدا من معرفتها بدينها، ولا من إدراكها للمادة الدينية المحررة، وإنما يأتيها من الجهل بها أو التشويش عليها، وحينذاك يكثر أصحاب الرؤى والنظريات الخاطئة”.
بعد هذا التوضيح أعطى الدكتور مصطفى بنحمزة مقترحه في هذا الإصلاح وذلك من خلال:
أولا: برنامج إصلاح التعليم العمومي والخاص:
أكد حفظه الله تعالى في هذا المحور أن بلاغ الديوان الملكي المعبر عن إرادة إمارة المؤمنين ورؤيتها لإصلاح التعليم الديني قد تضمن محاور يجب أن تعتبر معالم وحدودا يجب أن لا يحيد عنها أي إصلاح مقترح، والمتعين هو تحليل تلك المضامين وأجرأتها وتفريغها في مجزوءات تربوية قابلة للتنفيذ، وهاته المضامين التي تمثل معالم ومرتكزات يقوم عليها الإصلاح هي:
1 – إعطاء أهمية أكبر للقيم الإسلامية السمحة، وتنزيلها ضمن عناوين دراسية. ولمعالجة هذا المرتكز درس ثلاثة عناصر:
أ – مفهوم القيم وسمتها في المنظومة التربوية الإسلامية. وهذه القيم هي التي استمدت من نصوص الكتاب والسنة باعتبارهما مصدري الاستقاء في الإسلام، مثلما استمدت منهما العقيدة والرؤية الوجودية للكون، وباقي أحكام الشريعة.
ب – استعراض جملة من القيم التي تكتسي أولوية بحكم الواقع المجتمعي. منها: (قيمة العبادة ليكون التمسك بها نوعا من التدين المتوازن، قيمة الانتماء للوطن والدفاع عن مصالحه، قيمة الانتماء للأمة الإسلامية في مزاوجة بينها وبين قيمة الانتماء للوطن، قيمة الانصهار في الجماعة والانضباط لها وعدم الشذوذ عنها، قيمة احترام حقوق الإنسان….إلخ).
ج – تشخيص معنى السماحة في الشريعة الإسلامية كما نظر لها علماء الشريعة. وهي -كما قال حفظه الله- ترك الغلو والتشدد والتنطع في الدين. وعرج على مجموعة من الأبواب التي تتمثل فيها السماحة والتي يجب أن تدرس وعلى رأسها: باب اليسر ورفع الحرج في الشريعة.
2 – الاستناد إلى المذهب المالكي في ثلاثة من جوانبه هي: سنيته ووسطيته واعتداله، وإبراز كل الأبواب التي تمثل هذه الجوانب.
3 – إبراز قيم الإسلام في التسامح والتعايش مع مختلف الحضارات والثقافات الإنسانية. وتحقيق هذا المبتغى يتطلب تجلية الموقف الإسلامي الحقيقي من المخالفين، وذلك بدراسة القضايا ذات الصلة كتوضيح موقف القرآن الكريم من قضية الاختلاف، وحق الآخرين في ممارسة شعائرهم الدينية، وصيانة معابدهم وتمكينهم من إحياء أعيادهم ومناسباتهم وعدم مضايقتهم فيها وما إلى ذلك.
ثانيا: إصلاح برامج التعليم العتيق.
في هذه النقطة أوضح الأهمية القصوى التي يكتسيها الاشتغال على إصلاح برامج التعليم العتيق قال: “إن الاشتغال على إصلاح برامج التعليم العتيق يكتسي من الأهمية والجدوى بقدر ما يستحضر القائمون عليه كل الأبعاد والغايات الدينية والمعرفية والاجتماعية التي يحققها لفائدة الأمة”. ليقدم بعد ذلك مقترحه لهذا الإصلاح. قال: “وسيرا على نهج الإصلاح والتطوير، فإنه يمكن تسجيل ملاحظات ومقترحات أرى أنه يتعين أخذها بعين الاعتبار، والتأسيس عليها وأجرأتها ضمن برنامج قادم للتعليم العتيق يتحقق به إنصاف هذا التعليم وتمكينه من الارتقاء والتطور، ومساعدته على أن يؤدي أداء جيدا يناسب رسالته وأهميته”.
وأول خطورة أشار إليها هي ضرورة الاتفاق على تحديد الأهداف والمقاصد المتوخاة من تكوين الطالب بالتعليم العتيق وضبطها ضبطا جيدا، وعلى ضوئها يتم وضع برنامج للإصلاح، وهي أهداف تتلخص في تكوين شخص ترى فيه الأمة أنه من أهل العلم، وتثق بمعرفته وتأتمنه على تدينها.
إن وضع هذه الغايات النبيلة أمام الأعين واستحضارها يتطلب وضع برنامج دراسي قوامه:
1 – حفظ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع، لأن ذلك هو المؤهل الأساس للحضور في الحياة الدينية بتولي مهمات الإمامة خصوصا والتدريس والإفتاء.
2 – الاهتمام بكل المعارف الشرعية التي يأتي على رأسها بعد القرآن الكريم الاشتغال بالحديث النبوي رواية ودراية.
3 – قراءة النصوص القديمة على شيوخ العلم، وعدم الاقتصار على الأخذ من الملخصات والمراجع التي كتبت بلغات إن كانت من جهة ميسرة، إلا أنها تفصل الطالب عن لغة التراث العلمي.
4 – وصل خريجي التعليم العتيق بالثقافة المعاصرة وبالفكر العالمي الحديث ليتسنى لهم تمثله واستيعابه، وليسهموا في تطويره وترشيده.
5 – تقوية حضور المواد الأدبية في البرنامج الدراسي وهي كفيلة بأن تكسب الطالب قدرة على الإبانة والتعبير عن آرائه والدفاع عنها.
6 – تمكين الطالب من استعمال لغة عربية حديثة تجعله قادرا على التواصل مع التيارات الحديثة في المجتمع.
7 – تمكين التلميذ من اللغات الأجنبية إلى درجة المحاضرة والتأليف بها؛ لأن إتقانه لهذه اللغة يفتح أمامه آفاق التعامل مع العالم وإبلاغ رسالة الإسلام إلى الناس.
ومن مستلزمات بلوغ هذه الأهداف ضرورة المزاوجة بين مطلبين لا بد من الأخذ بهما معا وهما:
أ – الحفاظ على وحدة المنظومة التربوية المغربية باعتبارها كيانا متجانسا ومتكاملا.
ب – الإقرار أيضا بخصوصيات التعليم العتيق بما ينتظر منه من أجل بلوغ الأهداف المنشودة؛ حتى لا يكرر هذا التعليم صورا من التعليم الديني هي موجودة بالفعل على مستويات التعليم الثانوي والجامعي.
ثم تابع بيان مقترحه بمجموعة من الأمور التي يتعين توفرها لتحقيق هذه النقاط التي اقترحها من قبيل: التحقق من استيعاب التلميذ لمضامين كل مستوى بإجراء الامتحانات المعبرة عن المستوى الحقيقي للتلميذ، وتركيز مواد الامتحان وضم المتجانس منها بعضه إلى بعض؛ من أجل اختصار أيام الامتحان، وكذا الاهتمام برفع نسبة اشتراك المرأة في هذا التعليم، وإنجاز تقارير سنوية عن مسار التعليم العتيق، ورصد ما يحققه من أهدافه المرصودة التي تبرر الاستثمار القوي فيه…إلخ.
إعداد : محمد المعطلاوي
بارك الله في شيخنا العزيز بن حمزة… أتمنى أن يتم الاهتمام أكثر بالتنظير وطرح الإقتراحات لإصلاح التعليم الديني من لدن المختصين والباحثين… كما انبه إلى ضرورة توعية المدرسين باهمية نشر قيم الوسطية والتسامح التي جاء بها ديننا الحنيف.. لأن الإصلاح ينبغي الا يغفل المدرس لكونه من مكونات العملية التعليمية التعلمية…