الإنسان بين المنهجية الإسلامية والتصورات الوضعية


انطلقت الأسرة الإنسانية إلى الحياة بخلق الإنسان الأول “آدم” وزوجه “حواء”، وهذا جَعلُ الله تعالى واختياره حيث قال سبحانه: إني جاعل في الأرض خليفة (البقرة: 29)، وكان خلق الإنسان الأول خلقا ابتدائيا غير متطور، فلم يتدرج كأبنائه في بطن أم خلقا من بعد خلق، فقد قال تعالى: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين (الحجر: 29) وفي الحديث: «خلق الله آدم على صورته»، وللمنهج الإسلامي ميزان عدل وقسط في النظر إلى أية قضية، ومن أهم هذه القضايا “الإنسان”، الذي تعددت النظريات في الحديث عنه وبيان حقيقته ومكانته ووظيفته، ومصيره.
الإنسان بين المنهجية الإسلامية والتخبطات البشرية:
لا وجه للمقارنة بين مقررات الإسلام بشأن الإنسان وبين مقولات البشر فيه، فالأولى هي مقررات الخالق العليم، فلا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها: ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (الملك: 14)، والأخرى مقررات أرضية يحوطها الجهل والقصور والتناقض والظلم؛ لأنها صادرة من الظلوم الجهول الكَفَّار. ومن بين مقررات الإسلام بشأن الإنسان في المنهج الإسلامي:
1 – أنه مكلف مسئول: ووجه ذلك أن الله الخالق منحه منحة لم تعط لغيره من المخلوقات، ألا وهي “العقل” الذي هو مناط التكليف وسر المسئولية، وهذا المعلم الإسلامي يؤسس ثلاثة معاني رئيسة،

أولها: الجدية والاهتمام.

وثانيها: أن لا أحد يتحمل وزر غيره، ولا يتحمل غيره وزره عنه، كل امرئ بما كسب رهين (الطور: 24).

وثالثها: السعي الدائم نحو الكمال.
والمعنى الأول يمنح الحياة قوة وإنتاجية وينفي عنها العبثية واللامبالاة.
والمعنى الثاني يدحض فكرة الخطيئة والتكفير التي هي أحد أركان عقيدة النصارى، حيث يزعمون وراثة الخطيئة وانتقالها عبر العصور من آدم إلى ذريته، إلى أن جاء المسيح فقدم نفسه فداء تكفيرا عن هذه الخطيئة وسائر خطايا النصارى.
والمعنى الثالث: يدفع الإنسان إلى السعي في طلب العلم والسؤال؛ كي يكون على بصيرة ليحقق معاني الكمال الإنساني.
وفي مسألة التكليف تأتي جملة من المسائل، فلا تكليف للإنسان إلا بما يطاق، ولا تكليف إلا بعد العلم أو بما في الوسع تعلمه، وبناء على موقفه من التكليف يمدح أو يذم، ويؤجر أو يأثم، وينعم أو يعذب، والتكليف بهذا الوصف يجعل لحياته غاية ومعنى، ولوجوده رسالة ووظيفة، ذلك أن التكليف عبارة عن أوامر ونواهي ينشغل المرء بها طيلة حياته منذ البلوغ إلى الممات، فلا يعرف الفراغ والعبث.
2 – أنه مستخلف: لما كان الإنسان مزودا بوسائل الإدراك (السمع والبصر والفؤاد) التي جعلته أكرم المخلوقات، كان أهلا للاستخلاف، وهذا الاستخلاف يجعله في منزلة وسط بين السيادة العليا العظمى التي استأثر الله تعالى بها وحده، وبين العبودية الدنيا التي هي “مرتبة الكائنات العاجزة المسخرة لقانون الطبيعة، والتي ليس لها من الحرية نصيب “هذه المنزلة” التي تجتمع فيها السيادة على الكون، والعبودية لخالق هذا الكون (نظرات في الإسلام دراز: 44-45)، وهذا المعلم الإسلامي ينفي كونه مخلوقا على هامش الحياة، أو كالريشة في مهب الريح كما تزعم الجبرية، وليس إلها كما تروج بعض المذاهب الأرضية.
3 – أنه مختار: ومسألة الجبر والاختيار من المسائل الكبرى التي انقسمت بسببها الأمة فرقا، والذي تشهد له النصوص أن الله تعالى منح الإنسان مساحة اختيار وحرية، تترتب عليها المسئولية والجزاء، وما لا يدخل تحت اختياره فليس بداخل في نطاق السؤال ولا الجزاء، والاختيار شعور داخلي يلمسه الإنسان في نفسه ويدرك معه أن له اختيارات شتى، ولا داعي للدخول في التفاصيل الكلامية التي شققت المسألة تشقيقا مخيفا، فالتوسط بين القول بالجبر المطلق، والاختيار المطلق هو منهج الإسلام.
4 – أنه مكرَّم: وقد تجلت معاني الكرامة والتكريم في أن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأرسل الكتب وبعث الرسل، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض، وتكريمه يقتضي عدم ظلمه أو الاعتداء عليه في مال أو دم أو عرض، حتى لو كان مخالفا في العقيدة، فالمساواة إذا حق أصيل للإنسان، وليس كما تصور فلاسفة الغرب. ألم يقل “استيورات ميل” باستحالة تطبيق القانون على الشعوب الهمجية؟ أو لم يحدد “لوريمير” على وجه الأرض مناطق ثلاثا تخضع كل منها لقانون مختلف “فالعالم المتمدن يجب أن يتمتع في نظره بحقوق سياسية كاملة، والعالم نصف المتمدن يكفي أن يتمتع بحقوق سياسية جزئية، بينما الشعوب غير المتحضرة ليس لها إلا حقوق عرفية لا تحمل إلزاما قانونيا، وجاء ميثاق “عصبة الأمم” بعد الحرب العالمية الأولى فأقر هذا التقسيم الثلاثي وأكسبه سلطة القانون”. (نظرات في الإسلام: 95). والواقع يشهد بالتطبيق العملي لهذا العبث العالمي بالإنسان.
5 – أنه حقيقة مركبة وأنه محور الصلاح والإصلاح، أو الفساد والإفساد: فحقيقته مزدوجة بين مادة وروح، وغريزة وخلق، فليس ملكا مقربا، ولا شيطانا رجيما، فهو مركب له أشواقه الروحية، واحتياجاته المادية، يحلق أحيانا في عالم الروحانيات والمثل والهداية، ويتنزل أحيانا إلى عالم المادة والأرض، وكماله بأن لا يقطع غرائزه ولا يحاربها، وإنما كماله أن يتحكم في رغباته ويضبط ميوله ولا يشبعها إلا في حلال، وهو في هذا الكون إما أن يحمل قلبا نقيا وعقلا ذكيا، فيهتدي بهما إلى سبيل الرشاد، فيصلح نفسه ويسعى في إصلاح الكون بما يحمله من رسالة الهداية؛ وإما أن ينتكس فيكون فاسدا مفسدا، وهذه المساحة الفكرية في بيان طبيعة الإنسان تخبط فيها البشر فحاربوا طبيعته بالرهبة أحيانا، وأطلقوا لمعاني البهيمية العنان أحيانا أخرى.
وفي النهاية ينتهي الإنسان إلى مصير يلقى فيه نتيجة رحلته وعمله، “فريق في الجنة وفريق في السعير” (الشورى :7).

د. أحمد زايد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>