مصعب بن عمير وسيرة داعية (1) 1


إن في سلف هذه الأمة رجالا يسجد لهم التاريخ إجلالا وإعظاما، وينحني بهامته ليقبل مواطئ أقدامهم، رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فآثروا الآخرة الباقية؛ على الدنيا الفانية، وباعوا أنفسهم لله، فربح بيعهم، والله تعالى يشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة . من هؤلاء الذين كانوا من هذا المعدن النفيس؛ شاب من شباب الصحابة الكرام، عاش في رغد وترف، وتنعم بأطايب المأكولات والملبوسات، ولما شرح الله صدره للإسلام وقذف في قلبه نور الإيمان؛ ترك كل ما كان فيه، وأقبل على ربه محتسبا متحملا كل المشاق والابتلاءات حبا في الله ورسوله ، إنه الصحابي الجليل مصعب بن عمير ، الذي كان سراجا أنار الله به سماء يثرب فتحولت إلى مدينة منورة بنور الوحي والنبوة، وكان وابلا صيبا سقى الله به ربوع يثرب وفجاجها فاهتزت وربت وأنبتت أنصار الله الذين آووا نبيه، ونشروا دينه، وأقاموا للإسلام دولته.
إن تتبع آثار مصعب ومواقفه تحتاج لأسفار، فهو صاحب الهجرتين، وحامل اللواءين (لواء بدر وأحد)، ومقرئ المدينة، وأول سفير في الإسلام، وأول من هاجر إلى المدينة، وحسبنا من سيرته غرر ونتف تُشنف بها الأسماع، وتُمتع بها الأبصار، ومن هذه النتف ما يلي:
1 – حياة مصعب قبل الإسلام:
إن مصعبا لم يكن كأي الناس قبل إسلامه؛ بل كان شابا ذا جاه ومال، له بين أهله حظوة ومنزلة، فهو ابن أسرة ثرية، أمه من أغنياء مكة وتجارها، معروفة بالصفقات التجارية، ومن ثم كانت توفر له كل ما يحتاجه شاب في مثل عمره يحب الحياة الرغيدة، ويقتني أغلى الملابس والعطور في زمانه، ويسرح شعره بأحدث (موضات) تسريحات الشعر، ويلبس آخر طراز من النعال المعروفة بالجودة والحسن، ويكفي هنا ما ذكره الحاكم في مستدركه على الصحيحين بسنده فقال: كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابا وجمالا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، وكان رسول الله يذكره ويقول: «ما رأيت بمكة أحسن لمة، ولا أرق حلة، ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير».
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد رحمه الله قال: كان مصعب بن عمير فتى مكة شبابا وجمالا وسبيبا، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمه مليئة كثيرة المال، تكسوه أحسن ما يكون من الثياب وأرقه، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال.
هذه هي حالة مصعب في شبابه قبل إسلامه، ومع ذلك فلم يغْرِه ما هو فيه من سعة ورغد، ولم يثنه عن الإسلام ويزهده فيه ما كان يراه من صور التنكيل والتعذيب التي تصيب بلالا وأصحابه رضي الله عنهم صباح مساء في بطاح مكة ورمضائها.
2 – إسلام مصعب ومحن الابتلاء:
إن إعلان المرء إسلامه في تلك الظروف التي أسلم فيها مصعب كان يعني الدخول في مواجهة مع القبيلة والعائلة كلها، ومقاطعتهم، ومواجهة عدائهم التام، ومقاطعتهم النكدة، ولم يكن مصعب بمنحى عن هذا النمط الذي اتبعه أهل مكة في التنكيل بمن (ارتد) عن دين الأجداد، ودخل في الدين الجديد، ولهذا حاول مصعب في البداية أن يخفي إسلامه عن أمه وأهله، ولكن سنة الله لا تحابي أحدا، فكل من أسلم ينال نصيبه من الابتلاء، ويتذوق مرارة مقاطعة الأهل والأحباب، وقد نال حظه من هذا، وكانت عيون مكة له بالمرصاد، فقد ذكر ابن سعد أن مصعبا لما بلغه أن رسول الله يدعو إلى الإسلام في دار أرقم بن أبي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدق به، وخرج فكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فكان يختلف إلى رسول الله سرا، فبصر به عثمان بن طلحة يصلي، فأخبر أمه وقومه فأخذوه فحبسوه فلم يزل محبوسا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا فرجع متغير الحال قد حرج، يعني غلظ، فكفت أمه عنه من العذل”.
وفي الإصابة لابن حجر أنه لما أسلم كتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فعلمه عثمان بن طلحة، فأعلم أهله فأوثقوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هرب مع من هاجر إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة فهاجر إلى المدينة وشهد بدرا، ثم شهد أحدا ومعه اللواء فاستشهد. فهذا يعطينا صورة مصغرة عما تحمله مصعب في سبيل هذا الدين ونصرته، وما لاقاه من الشدائد والمحن والضغوط، يقول السهيلي رحمه الله تعالى: “كان قبل إسلامه من أنعم قريش عيشا وأعطرهم… فلما أسلم أصابه من الشدة ما غير لونه وأذهب لحمه ونهكت جسمه، حتى كان رسول الله ينظر إليه وعليه فروة قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر ألا تأكل ولا تشرب ولا تستظل بظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف للشمس حتى تسقط مغشيا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بشجار -وهو عود-فيصبون فيه الحساء لئلا تموت.
فهذا غيض من فيض مما تحمله مصعب في دين الله وابتغاء مرضاته. فرضي الله عن مصعب وإخوانه، وجعلنا على نهجهم سالكين، والحمد لله رب العالمين.
عبد الصمد احسيسن


اترك رداً على حفصة إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “مصعب بن عمير وسيرة داعية (1)

  • حفصة

    رضي الله عنه وارضاه وجمعنا معه في الجنان يارب رجل ضحى بحياته وماله من أجل نشر الدعوة المحمدية فماذا فعلنا نحن لنشر هذا الدين