المنحنى التعبدي في عصري الرسالة والراشدين للشيخ عبد الستار الحياني


على كثرة ما كتب عن سيرة رسول الله وصحابته الكرام (رضي الله عنهم) من بحوث ودراسات ومؤلفات، فإن واحدة من أهم الحلقات في حياتهم الخاصة والعامة، لم تتلق ما تستحقه من اهتمام، على المستويين الذاتي والتاريخي، وليس المستوى الفقهي بطبيعة الحال… تلك هي خبرتهم وممارستهم التعبدية، باعتبارها المنطلق ونقطة الارتكاز في تكوينهم ونشاطهم اللذين قدر لهما أن يعيدا صياغة العالم، ويغيرا مجرى التاريخ.
ومعروف أن العبادة، بالنسبة للمسلم عموماً، هي حجر الزاوية في بناء شخصيته، وتحديد علاقته بخالقه سبحانه، وتنفيذ مغزى وجوده في هذا العالم، مصداقاً لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (الذاريات، (56-57).
فكيف بالنسبة لنبي هذه الأمة وقادتها الكبار من صحابته الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم).
إن عمق التجربة الروحية لرسول الله وصحابته الكبار (رضي الله عنهم)، وغناها، وتنوعها، وممارستهم التعبدية، سواء في نطاق أطرها الفقهية المحددة، أو ما وراءها من الارتباط الروحي المدهش بالله سبحانه، والذي صعد بهم في المراقي، فاجتازوا محطات الإسلام، فالإيمان، فالتقوى، فالإحسان، لكي يقفوا هناك، في سقف العالم، قبالة الحضور الإلهي ذي الجلال… وكانوا من هناك يطلون على الدنيا وقد تضاءلت في رؤيتهم المتعالية، فما لبثت أن غدت شيئاً منحسراً، زائلاً، لا يساوي جناح بعوضة… رغم أنهم بموازاة هذا، وربما بسببه، مارسوا دورهم الكبير في قلب الدنيا، وأعادوا صياغتها من جديد، من أجل أن تكون بيئة صالحة لعبادة الله سبحانه، ليس بالمفهوم الشعائري المحدود، وإنما بالرؤية الحضارية التي يصير فيها كل جهد أو إنجاز أو إبداع، عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله جل في علاه.
إن متابعة الخبرة، أو المنحنى التعبدي، في سيرة رسول الله وتلامذته البررة (رضي الله عنهم)، في مؤلف كالذي يجده القارئ بين يديه، لا تؤدي مهمة دراسية أكاديمية فحسب، مما تتوخاه معاهد الدراسات العليا والجامعات، وإنما تتجاوز ذلك إلى ثلاثة مهام أكبر أهمية بكل تأكيد:
أولاها: متابعة واستقصاء الخبرة الروحية للمنتمين إلى هذا الدين، وهي غنية خصبة متشعبة، على العكس تماماً مما يتهمنا به الخصوم الذين يدّعون لأنفسهم موروثاً روحياً ما أنزل الله به من سلطان.
ثانيها: تقديم النموذج-القدوة لأجيال المسلمين في كل زمان ومكان، على المستوى التعبدي، وتحفيزهم لكي يبذلوا ما بوسعهم للاقتداء برسول الله وصحابته الكرام (رضي الله عنهم) ومحاولة مقاربتهم، ولا أقول اللحاق بهم، فذلك أمر يكاد يكون مستحيلاً.
ثالثها: متابعة واستقصاء مفردات وأبعاد النشاط التعبدي في أطره الفقهية؛ لكي يكون المسلمون عموماً، والمعنيون بالفقه خصوصاً، على بينة من الأمر في هذه الساحة التأسيسية التي يقوم بها وعليها بنيان الأمة، على مستوى الأفراد والجماعات.
الجزء الأول من هذا الكتاب، والمعني بالحياة التعبدية للرسول ، هو في الأصل رسالة ماجستير أتيح لي أن أشرف عليها، وأن أعيش وأستذوق، مع مؤلّفها نفسه، الممارسات التعبدية الخصبة لرسول الله .
وأما جزؤه الثاني فيتابع ويحلل الخبرة نفسها لدى صحابته الكرام الأربعة من خلفائه الراشدين (رضي الله عنهم). وهو في الأصل أطروحة دكتوراه تتم ما بدأته الرسالة الأولى.
والمنهج الذي يعتمده المؤلف في الجزء الأول يقوم على ثلاثة فصول، بعد “تمهيد” يعرض فيه للأوضاع الدينية في مكة ويثرب، وجوانبها التعبدية.
يتناول الفصل الأول حياة الرسول التعبدية قبل البعثة، ويعالج ثانيهما الخبرة ذاتها في العصر المكي، بينما يمضي الفصل الثالث لمتابعة حياته التعبدية بعد الهجرة.
أما الجزء الثاني فيتابع بالاستقصاء والتحليل، الخبرة التعبدية لدى الخلفاء الراشدين الأربع (رضي الله عنهم) بعد تمهيد يعرض فيه بأسلوب مقارن بين العبادة في الإسلام والعبادة في المجتمع الجاهلي.
إن الكتاب، مرة أخرى، حلقة من أهم حلقات السيرة النبوية المباركة، بما أنها تمس العمق الروحي للرسول القائد عليه أفضل الصلاة والسلام، ولخلفائه الكرام (رضي الله عنهم)، ذلك الذي قدر له أن يطلع على البشرية بخير أمة أخرجت للناس، وأن يسقط طاغوتيات كسرى وقيصر، ويحرر الإنسان، ويعيد صياغة التاريخ.
ومن الله وحده التوفيق والسداد

أ.د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>