توطئة:
من المؤكد أن خسارات جسيمة أصابت أزواجنا وزوجاتنا وأسرنا بفعل اختراق وسائل الإعلام لبيوتنا وتدخله في أخص خصوصياتنا، وإفساد أزواجنا وزوجاتنا، وتوجيه أبنائنا وبناتنا؛ ومرد ذلك في الغالب إلى ضعف الوازع الأخلاقي، ونقص المعرفة بتعاليم الدين وما يفرضه من آداب وسلوك ومعاملات بين الأزواج، والتزام بواجبات تربية الأبناء.
تفاعلا مع هذه التحديات المعاصرة، وتقديما لرؤية شرعية واقعية تساهم في حل بعض مشاكل الحياة الزوجية، أقدم بين يدي القراء هذا المقال في موضوع: “الإعلام ومشاكل الحياة الزوجية”، ويمكن تشقيقه إلى ثلاث نقط:
1 – واقع الإعلام وخطورته.
2 – أثر الإعلام في مشاكل الحياة الزوجية.
3 – حلول واقتراحات.
1 – واقع الإعلام وخطورته:
من الواضح أننا نعيش اليوم مرحلة من تاريخ الإنسانية، ومن تطورها العلمي والتكنولوجي؛ مرحلة القرية الإعلامية الواحدة، التي لا يخفى على سكانها أي شيء مما يجري في محيطها، حتى أصبح الإنسان، أينما كان، يرى العالم ويسمعه من مقعده، عبر موجات الراديو والتلفزيون والأقمار الصناعية، ووكالات الأنباء، وشبكة الانترنيت والقنوات الفضائية، والنشرات الصحفية، والكتب والمجلات المتخصصة وغير المتخصصة. ولم تقتصر هذه الوسائل الإعلامية على اختراق الحدود الجغرافية والسياسية، وإنما جاوزت ذلك إلى إلغاء الحدود الثقافية، والتدخل في الخصوصيات النفسية، وتشكيل القناعات العقدية، وتوجيه القيم والأخلاق الفردية والاجتماعية، وفق الخطط المرسومة لصاحب الخطاب الأكثر تأثيرا، والبيان الأكثر سحرا، والتحكم الأكثر تقنية. ومن المعلوم أن صاحب هذا الخطاب هو إعلامي الدول المتحكمة في رقاب العباد اليوم.
ولئن كان الإعلام في الماضي يوظف من خلال الراديو أو التلفاز أو وكالات الأنباء في إيصال المعلومات ونشر الأخبار، والترويح عن الناس وتسليتهم؛ فإنه اليوم أصبح، بفعل التقدم التكنولوجي وتنامي العلاقات الإنسانية والاجتماعية والدولية، يساهم بشكل فعال في صنع الحدث وتحضيره، وتشكيل عقل الإنسان وصناعة ذوقه العام، وإقناعه بمبادئ وأفكار، وتوجيهه نحو اهتمامات معينة، لعل أبرزها وأقواها التسلية التافهة التي تحرك الشهوات وتسيطر على الحواس، وتعيد الإنسان إلى حياة الغابة، وأدناها وأضعفها الثقافة الراقية والقيم الدينية الهادفة.
وذلك ما نلحظه في برامج قنواتنا وصحافتنا المحلية، التي تتجه في معظمها إلى التسلية والترفيه والتسويق والترويج، محاكية إنتاج وإخراج الدول المتحكمة إعلاميا(1).
ومن هنا، بات من الضروري أن ندرك الأبعاد المتعددة والخطيرة لإعلام اليوم، الذي بدأ بالتسلل إلى داخل الأمة فاخترقها، ثم عمل على التحكم فيها، وإلقاء القبض على عقلها وعواطفها واهتماماتها، وصناعة أذواقها في الفن واللباس والجنس، وتشكيل قيمها وعاداتها وألفاظها(2)، مستغلة مشكلة تخلفها على جميع الأصعدة، ولا سيما على الصعيدين الإعلامي والتعليمي.
لا بد أن ندرك دوره الخطير هذا، ونحن نحاول مراجعة خطابنا الإعلامي، ونحن نخوض تجربة التنمية الشاملة، وإعادة صياغة الشخصية المسلمة من جديد، والبحث عن المشاكل التي تعيق تنميتها، وتفسد أخلاقها، وتشل فاعليتها.
وبما أن هذه الشخصية لا تنمو في الغالب إلا في حضن الأسرة الدافئ، وبما أن الأسرة هي نواة المجتمع، وبما أن أصوات التلفاز والانترنيت قد طغت في بيوت الأسر في معظم الأوقات، وثقلت المكاتب بمجلات الترفيه وصحافة التفسخ والانحلال، ونضبت معاني الإيمان والرجولة في النفوس؛ بما أن الأمر كذلك، كان لا بد من الكلام عن بعض آثار الإعلام في مشاكل الأزواج، لماذا؟ لأنه من غريب المصادفات أن يوافق عصر ثورة المعلوميات والإعلام عصر ثورة الأزواج على زوجاتهم وبالعكس…
2 – أثر الإعلام في مشاكل الأزواج:
يمكن رصد هذه الآثار على مستويات ثلاثة:
2-1 مستوى المعاشرة الحسية:
المعاشرة الحسية هي قوام وجوهر العلاقة الزوجية، ومدى نجاحها ينعكس على الحياة الزوجية بأسرها- بعد اتفاق العقيدة وتناسب الأخلاق واتحاد الأهداف- فإذا لم تقم هذه العلاقة على المعروف، وهو تحقيق الإشباع الجنسي لكل طرف، لم يتحقق للزوجين استقرار ومودة وسكن، ولأجل أهمية ذلك، قال : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم: 20)، وقال: هن لباس لكم وأنتم لباس لهن (البقرة: 187)، وأسمى درجات المودة والدفء الذي يوفره اللباس إنما تتحقق في المعاشرة الحسية بين الزوجين؛ لكن إذا لم تضبط هذه المعاشرة بحدود ترفعها من مستوى الشهوة التي تقضى في لحظة إلى مستوى العبادة التي يحصل بها الأجر والثواب، كما صرح بذلك القرآن الكريم: (فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)(البقرة: 222). والحديث النبوي الشريف: “وفي بضع أحدكم صدقة…”(3)؛ فإن تلك المباشرة تكون مبعث فتنة وبلاء للأزواج. ولعل إعلام اليوم الذي ينشر الرذيلة، ويدعو إلى مخالفة فطرة الله في الاستمتاع، ليس ببعيد عن المشاكل التي يعيشها الأزواج على مستوى العلاقات الحسية.
لقد اعتدنا على سماع خبر إرغام زوج لزوجته أو زوجة لزوجها- وهو نادر- على الجلوس أمام المناظر الفاضحة، المتحركة والمتنفسة، التي وضعها المرتزقة والسفلة من الناس…
وأحيانا تأتينا أنباء عن الاعتداءات الجنسية التي يلحقها زوج بزوجته، يقضي بها شهوته، ويقضي معها على مشاعر الحب والمودة. وقد كنا بالأمس القريب نسمع هذه الأحداث الفاضحة عند غيرنا من الأمم المتمدنة. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولاسيما لدى النساء ضحايا العنف، ومن يلجأ إليهن من نساء مشرفات على مراكز الاستماع.
وكم استمعنا إلى نساء يسألن عن حكم الشرع في إتيان المرأة من دبرها، وإن كان لذلك من علاقة بالأوضاع التي أشار إليها القرآن بلطف: فاتوا حرثكم أنى شئتم… (البقرة: 223)؟ وأصبحنا نقرأ على صفحات الجرائد المأجورة التي تنشر الفضائح في ضوء الشمس بدعوى إصلاح ما فسد من أوضاع؛ قصصا مشينة لأزواج فتكوا بزوجاتهن بسبب إدمانهم على مشاهدة القنوات ومواقع شبكة الانترنيت، وسمعنا خبر زوجة اشتبكت في عراك مع زوجها بسبب إصراره على إدخال الصحن الفضائي إلى بيتها؛ لأن المسكينة خافت أن تطير مع دخوله سعادتها الزوجية، وأن تكره على ما تعافه نفسها من استمتاعات ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.
وهكذا، أصبحت مشاكل معاشرة الأزواج الحسية التي رفعها الله إلى مستوى العبادة قصصا تروى، وطرفا تحكى، وصورا يشمئز منها النفوس.
2-2 على مستوى المعاشرة الخلقية:
بما أن كثيرا من القنوات والمواقع التجارية الدولية، وحتى العربية تدعو إلى الفسوق وفقدان العفاف والحياء، وانتهاك الأعراض، والاستهزاء بالمقدسات، وإفساد الشريك على شريكه، حتى يصبح أكبر همه إرواء غريزته ولو على حساب هدم أسرته. بما أن الواقع كذلك، فإن كثيرا من المشاكل الزوجية التي تقع في أسرنا إنما تقع بسبب التأثر بما تعرضه القنوات في ضوء الشمس من مقذوفات غير أخلاقية، ولعل أهمها: سوء المعاشرة الزوجية؛ حيث تسوق الأفلام المعروضة في هذه القنوات إلى عدم الرضا عن زوجته، فيصير ضيق الصدر بها، غير مهتم لها، عابسا في وجهها، مسيئا في معاملتها، مقترا في نفقتها، وذلك لأنه اعتاد النظر إلى صور بغايا أوروبا وهوليود، وأعجب بواحدة منهن على وجه الخصوص، وأصبح يبحث عمن تشبهها من النساء غير الواعيات في بلدنا، ممن يقلدنها وينسقن بحكم عواطفهن وأهوائهن في تيار الأزياء الفاضحة المغرية، فإذا ظفر ببغيته- وقد تكون قريبة امرأته- نزع خلق العفة، وخان المودة والعشرة. وفي أحسن الأحوال يدفع امرأته إلى تغيير ما خلقه الله سويا في جسدها لترتقي إلى المستوى الجمالي الذي يرضيه، فيشترك معها في اللعنة التي تلحق المغيرات خلق الله. وقد تكون محجبة، فيدفعها دفعا إلى نزع حجابها لتتزين الزينة التي ترضيه داخل بيته وخارجه، فيفقد بذلك معاني الرجولة والنخوة والمروءة والغيرة.
وقد يحدث بعض مما ذكرت للمرأة، إلا أنها في غالب الأحيان تسوء أخلاقها بسبب إسرافها في الزينة والموضة، مهما بدت غريبة ومعيبة، مقتدية بما تقذفه القنوات والصحف والمجلات المتخصصة، عسى أن تعوض نقصا في شخصها، وتستديم مودة زوجها، وإن أرهقت كاهله بالنفقات، معتقدة أن الإنفاق دليل على حبه لها، فماذا يقع؟ مشاجرات وخصومات من أجل أن تشبع المرأة نهمها في ارتداء الزي الجديد، وقد لا يرضيها إنفاق الزوج، فتخونه مع من هو أكثر غنى وثراء، منجذبة بما تشاهده أو تسمعه من ارتباطات جنسية آثمة، صارت من أوضاع مجتمعنا العادية، وتكون هي الخاسرة في نهاية المطاف.
ومن التصرفات التي تقضي على الوئام وتدفع إلى العناد وتشعل فتيل الغيرة في قلب الأزواج. ما يكون بين الأزواج من شقاق بسبب عدم الاتفاق على تحويل اتجاه القنوات (zaping)، وقد ينشب الخلاف لأن الزوج امتدح فنانة أو أن الزوجة نظرت إلى فنان يستهويها، فيسيء كل منهما للآخر بالكلمات النابية وتشب في البيت معركة حامية.
2-3 مستوى تربية الأبناء:
قد يقول قائل: ما علاقة مشاكل الأزواج بتربية الأبناء؟ وما علاقة ذلك بالإعلام الفاسد؟ أقول: بما أن غاية الحياة الزوجية هي إنجاب الأولاد وتأهيلهم وتربيتهم، فإنه لا يخفى على عاقل اليوم أن من أخطر وسائل إفساد الأولاد خلقيا وسائل الإعلام الداعية إلى الميوعة والانحلال. والأطفال المراهقون شديدو الحساسية للاستهواء، لذا فإن الأب الذي يغفل عن مراقبة ما يشاهده أولاده من الأفلام الغرامية أو البوليسية التي تحرض على الانحراف والإجرام؛ لا شك أنه يرمي بأولاده إلى طريق الانحراف والعصيان، والأب والأم اللذان يسمحان لأولادهما بإطلاق بصرهم في شاشات التلفزيون وشبكة الانترنيت، وقذف صورهم ورسائلهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في أي وقت شاءوا، فإنهما لا محالة سيعرضانهم للانحلال والاستهتار بكل شيء مقدس ونبيل من مبادئ الدين، والإعراض عن النصح والتوعية والتوجيه…
والأب والأم اللذان يأذنان لأولادهما بشراء المجلات الماجنة ومطالعة القصص الغرامية، واقتناء الصور العارية… لا شك أنهما يعبدان لهم طريق الفحشاء والمنكر، وتلقي دروس الصداقات المشبوهة والارتباطات الجنسية الآثمة… وكل ذلك يضرم البيت جحيما؛ فيتبادل الوالدان التهم حول مسؤولية ما آل إليه حال أبنائهما من انحراف وعقوق، ويزداد الأمر سوء عندما يكون الوالدان يقضيان جل وقتهما في حياة الإثم والغواية، أو حياة التنعم واليسار، فيهملان واجب مراقبة أبنائهما وتربيتهم، وتزداد مشاكلهما حدة بقدر ما يتسبب فيه أبناؤهما من أضرار تلحق بالأبرياء من أبناء المجتمع… فكم سمعنا عن ولد مدلل طائش، أرق والديه بمشاكله، فهتك عرض فتاة، على نحو ما فعل الممثل الفلاني، أو تهور في سياقة سيارته، فتسبب في عاهة مستديمة لبريء، أو اعتدى على آخر وسلب ماله ليحاكي ممثلا مشهورا في دوره الإجرامي.
وكم سمعنا عن فتيات وقعن في حبائل الفاحشة والزنى، وأصبحن مدنسات السمعة والشرف؛ لأنهن رغبن أن يلبسن أو يركبن سيارات فاخرات، بسبب ما شاهدنه من صور المتاجرة بالأعراض في الأفلام والمسلسلات الموحية بأنه أوسع الأبواب للأرزاق…
(يتبع)
أ. د جميلة زيان
—————–
1 – مثلا: سلسلة الحوارات، والوثائقيات، وبرامج الشباب، والرسوم المتحركة، والأفلام العربية، والسهرات الغنائية، والمسلسلات المكسيكية والتركية والكورية والأفلام الأمريكية…
2 – مثل: الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتضامن، وضبط النفس، والسلام، والإرهاب، والخير والشر، وعولمة الأسواق والأفكار…
3 – رواه مسلم في الزكاة برقم1006، عن أبي ذر الغفاري.
بينج باك: النزاعات العائلية: كيف تنشأ؟ -1- | الأكاديمية العربية الدولية | الحياة الأسرية