نُـبْـلُ الرياضة وشَغَـبُ الملاعب


في كل مرة يُفرز الواقع وقائع وأحداثا مؤلمة، هي نتيجة طبيعية للفهم السيئ لبعض القضايا، ومنها الانحرافُ في الفهم، والخللُ في التربية، فتقع أحداث جسام بين أبناء المجتمع الواحد، عنوانُها العريض شيوعُ العنف بأشكاله، الذي ينتج عنه إزهاق الأرواح، وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، تحت مسمّى التعبير عن المشاعر، وتشجيع فريق رياضي ما، وما وقع يوم “السبت الأسود” كان ثمنه غاليا: وفاة شابين غضَّيْن طريَّيْن، ليس في حادثة سير، ولاغرقا في البحر، ولا بمرض مفاجئ، بل كانت الوفاة عقب مباراة لكرة القدم، في رياضة من الرياضات. فهل هذا هو مفهوم الرياضة، وهل هذه أهدافها ؟ أن تصبح الرياضة ساحة للحرب، وهل تكون الآثارالمروعة مبررا لتوصيف كرة القدم بكونها وسيلة تخدير، أو اعتبارها مُلهِيةً عن الواجبات، ووسيلة للتعصب والغلو الأعمى، أو أداة للاغتناء على حساب الممارسين من الأبطال، وأحيانا وسيلة لكسب الأنصار والتجييش السياسي. فما حكم الإسلام في ممارسة الرياضة ومتابعتها في ضوء ما يحف بها اليوم؟
1 – شمول الشريعة:
ويعني ذلك أنها، تهتم بالروح والبدن، والرياضةُ تستهدف تقوية البدن، ولذلك ورد الحث على اكتساب القوة في القرآن وفي حديث النبي من ذلك أن الله تعالى وصف نفسه بأنه ذو القوة المتين ، وأشار إلى ذلك النبي بقوله:«المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ» (مسلم4822).
2 – الحكم الشرعي في الرياضة ممارسةً ومتابعةً:
ويندرج هذا الأمر في سياق المباح والمستحب، ولا سبيل للتحريم إلا بدليل قطعي الدلالة والثبوت، لأن الأمور بمقاصدها، فممارسة الرياضة ومتابعتها مباحة، بل مندوبة إذا كانت من أجل تقوية البدن والنفس، فهذا يمارس الرياضة من أجل جسد قوي، والآخر يتابع الرياضة من أجل الترويح والإستجمام والتخفيف عن النفس، لاسترجاع النشاط البدني والنفسي، وإنما «الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى».
3 – حضور الرياضة في دائرة الاهتمام النبوي:
لقد كان للنشاط الرياضي نصيب معتبرفي سيرة النبي وأصحابه، ومن ذلك أنه كان يَصف عبد الله وعُبيْـدَ الله وكثيرا من بني العباس، ثم يقول :«مَنْ سبَق إليّ فله كذا وكذا» فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره، فيقبّلهم ويلزَمُهم» (أحمد 1766)،كما أشرف مباراة مصارعة بين رافع بن خديج وسمرة بن جندب وهما لم يتجاوزا السنة الرابعة عشرة من عمريهما. ينظر: تاريخ الطبري 2/61،بل إن النبي صارع أحد صناديد قريش وهو رُكانة بن زيد، وكان من أقوى الرجال فصرعه البداية والنهاية. قصة مصارعة ركانة. وثبت أيضا أنه∍كان يعقد السباقات بين الخيل المضمّرَة (المسمَّنة بالعلف والمحجوزة بعد ذلك حتى تصبح نحيلة) وغير المُضمّرة (البخاري ح2713) باب سباق الخيل. قال ابن حجر معقِّبا:” وفي الحديث مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصِلة إلى تحصيل المقاصد” (فتح الباري 2713 كتاب الجهاد والسير, باب السبق بين الخيل). وكان∍يشجع على الرمي، فقد مرّ على جماعة من الأنصار فقال: «اِرمُوا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» (البخاري 3316)، وقال :«من عَـلِم الرمي -أي تعلّمه- ثم تركه فليس منا» أو قال : «قد عصى» (مسلم 1919). باب فضلا لرمي والحث عليه. ولا شك أن الوقت الذي كان ينشغل فيه مجتمع النبي بممارسة هذه الأنواع الرياضية هو وقت الفراغ بعد إعمار الأوقات بالواجبات ، ولذلك تصلح الرياضة أن تغدو وسيلة لملء الفراغ بالنافع من العمل، والرياضةُ من الأشياء النافعة، وفي هذا المعنى يقول النبي : «نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغ» (البخاري 6412 ابن ماجة 4130.الترمذي 2304)، فممارسة الرياضة بِنيَّة تقوية الجسد، عونٌ للممارس على القيام بالواجبات، فيُؤجر من هذا الجانب أيضا. وفي حديث آخر: «كلُّ شيءٍ ليس فيه ذكرُ الله فهو لهوٌ ولعب، إلا أربعٌ: مُلاعبة الرجل امرأتَه، وتأديبُ الرجلِ فرَسَه، ومَشيُهُ بين الغَرَضَيْن، وتعليمُ الرجلِ السباحة» (السنن الكبرى النسائي ح 8616).
4 – ضوابط شرعية في ممارسة الرياضة:
قد يغفل عنها الممارسون أو المتابعون، ومنها:
أ- الحرص على الستر عند الممارسة:
بستر ما أوجب الشارع ستره، سواء كان الممارس ذكرا أو أنثى، على خلاف بعض ما يحصل في عالم النساء ، حيث لا يسمح لهن إلا باللباس الكاشف، ولذا فإن المرأة مع حرصها على الرياضة، تحرص على استحضار فضيلة الستر، وكذلك الرجل.
ب- عدم تعارض الرياضة مع أداء الواجبات الدينية في أوقاتها:
ولذلك نثمّن سلوك بعض اللاعبين الحريصين على أداء الصلوات في أوقاتها، وإنْ بين الشوطين، مع الانشغال بالمباراة، وهذا له تأثيرعلى المتابعين من الشباب،فيكون اللاعب قدوة صالحة لغيره للاقتداء به، وعلى النقيض من ذلك فإن بعض المتابعين للمباريات يُهدرون الواجبات في أوقاتها بسبب متابعة المباريات، سواء في الملاعب أو أمام الشاشات، وهذا خلل كبير، فحين يتعارض المباح مع الواجب، يُقَدَّم الواجب.
ج- عدم اتخاذ المسابقات الرياضية وسيلة للكسب الحرام بالمراهنات والقمار:
وهذه ظاهرة عمّت، فتصبح الرياضة بنبلها، تُعلّم الناس الكسل والرغبة في الربح السريع، فترى بعض الناس من مختلف الأعمار طوابير أمام الأكشاك يملؤون خانات المباريات، وتسخَّر وسائل الإعلام للدعاية لهذا العمل، وتستفيد من ذلك بل شركات المراهنات والقمار التي تراكم ثروات كبيرة، على حساب الممارسة الرياضية، التي هي في حكم المباح، لكنها تغدو مدعاة إلى الحرام.
د- الحفاظ على المال المتداول في الرياضة:
لقد أصبح سوق الرياضة تروج فيه أموال طائلة بسبب انتقال اللاعبين، أو تغيير المدربين، ومصاريف المنتخبات، فالرياضة باعتبارها شيئا مباحا لا تبرر إهدار المال العام، بل يُفتَرض حسن التدبير، حتىينأى الإنسان بنفسه أن يصنف في خانة المبذرين المذمومين في قوله تعالى: ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء:26).
ه- تجنب إلحاق الأذى بالمنافس أو المتابع:
فلا يجوز أن تصبح الرياضة سببا لإلحاقا لأذى بالناس، يقول تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوابهتانا وإثما مبينا (الأحزاب: 58)، ويقول النبي : «المسلمون من سلم المسلمون من لسانه ويده» (البخاري 10)، فلايجوز للممارس أن يُلحِق الأذى بالمنافس، بدافع الحماس والتحفيز المالي والرغبة في الفوز ولو أدى ذلك إلى كسر رجل لاعب آخر، فلو كان بهذه النية كان الإثم حاصلا لا محالة، بخلاف ما إذا وقع الاصطدام بينهما عرضا. وقد يكون الأذى صادرا عمن يتابعون المباريات بالسب والشتم والتعيير والإشارة، وهذا حاصل في الملاعب، والشاهد ما وقع بين فصيلين من فريق واحد، فكانت الطامة، قتل شابين في مقتبل العمر.
و عدم التعصب المؤدي إلى النزاع والشقاق:
بكل الوسائل، من الألفاظ النابية، والتراشق بالحجارة والشهب الحارقة، ومن باب أولى لا يجوز الطعن المؤدي إلى العاهات والقتل، كلُّ ذلك يقع بسبب شيء مباح، هو الرياضة، هو كرة القدم، حيث يأتي المتابع إلى فضاء رياضي للاستمتاع والترويح، لا إلى ساحة حرب.
ز- الروح الرياضية أوالتنافس الشريف:
ومعناه أن يكون الرياضي -ممارسا أو متابعا- متحلّيا بشيمةالصبر والتحمل، والقبول بالنتيجة كيفما كانت، فالروح الرياضية ضابط شرعي ينأى بالممارس والمتابع عن التكبر، والنأي بالنفس عن الجدال والكلام قبل المباراة وأثناءها وبعدها ، خاصة عبر بعض مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من الوسائل الإعلامية، مما يؤجج النزاع ويهيء أجواء التوتر والاحتقان، ويعقّد مهام رجال الأمن، فهل هذه هي الروح الرياضية التي أرشد إليها رسول الله وهو يقدم القدوة الحسنة، في مجال التنافس الشريف؟ فعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي في سفر قالت: فسابقتُه فسبقتُه على رجلي، فلما حملتُ اللحم سابقْتُه فسبقني فقال: «هذه بتلك السبقة» (أبو داود 2578)، وفي واقعة أخرى جاء أعرابي بناقته، وسابق النبي بناقته العضباء – وكانت لاتُسبَق-، لكن الأعرابي سبقها فشقّ ذلك على الصحابة، فإذا به ∍يجسد قمة الروح الرياضية والأخلاق العالية الرفيعة، قائلا: «إنّ حقًّا على الله ألا يرفع شيئا من الدنيا إلى وضعه» (البخاري 6136). وفي قصة عمر بن الخطاب مع ابن القبطي المصري الذي سابق ابن عمرو بن العاص أمير مصر فسبقه، فأخذت ابن َالأمير العزةُ، فلطمه وهو يقول: أتسبق ابن الأكرمين؟ فشكاه إلى عمر، فأمر بإحضار الأمير وابنه وأمره أن يقتصّ منه وقال قولته المشهورة: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا”. إن المجتمع إذا لم ينتبه إلى ظاهرة العنف وشغب الملاعب، ويتعامل معها بالجدية اللازمة، فقد تنفلت الأمور و تترتب على ذلك آثاراجتماعية يحار فيها القائمون على البلد: دولةً ومؤسساتٍ، فلا بد من التصدي لهذه الظاهرة الغريبة، ولابد أن تتجنّد كل المؤسسات بدءا بالأسرة، والمدرسة، والمجتمع المدني والدولة، من أجل تقويضها، والمحافظة على نعمة الأمن والاستقرار الذين أسبغهما الله على هذا البلد، وإلا، لاحاجة إلى كرة قدم تؤدي إلى إزهاق الأرواح، وتُفجِع الآباء والأمهات في فلذات الأكباد.

د. كمال الدين رحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>