من مشاهد القيامة في سورة القارعة «عظات وعبر» 1


تمهيد:
لابد بعد تصحيح العبد لتصوره في علاقته بربه، أن يصحح تصوره نحو اليوم الآخر.
ذلك أنه الركن الأساسي بعد الإيمان بالله تعالى، وهوالقضية الكبرى الثانية التي عالجها القرآن الكريم و فصل فيها، وكثيرا ما كان يقرن في الدعوة إلى الإيمان، بين الإيمان بالله واليوم الآخر ويجمع بينهما في كثير من النصوص القرآنية والحديثية. من آمن بالله واليوم الآخر ، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر … ولا غرابة في ذلك، فاليوم الآخر هو الذي يعطي قيمة ومعنى لهذا اليوم الأول الذي نعيشه في هذه الدنيا الفانية، وطلب منا فيه أن نؤمن بالله ونتبع طريق الخير والهدى ونبتعد عن طريق الضلال والفساد، فيستجيب من يستجيب، ويأبى من يأبى. فلابد إذن من يوم يتحقق فيه العدل الإلهي المطلق الذي قال عنه رب العباد لا ظلم اليوم . فتجزى فيه كل نفس بما كسبت، يجازى أهل الخير بالخير فيدخلون الجنة، وأهل الشر بالشر فيدخلون النار والعياذ بالله. وبدون يقين على هذا يعيش الإنسان حياة عبثية لا غاية لها ولا معنى. وأي قيمة للحياة في هذه الدار بدون إيمان بتلك الدار.
فالمتدبر لكتاب الله تعالى لاشك أنه يلفت انتباهه سعة الحيز الذي خصصه للحديث عن الآخرة وأهوال القيامة، وما ينتظر الناس فيها من أحوال غريبة، وأمور عظام لا تطاق، ولا قبل للإنسان بحملها ومواجهتها ولا ملجأ منها ولا منجى إلا رحمة رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما. ولعل الغاية من هذا الترهيب الرهيب، من القيامة وكرباتها، الوارد في كثير من الآيات والسور، وفي مقابل ذلك الترغيب العجيب فيما خصت به الآخرة من نعيم وحياة سعيدة، إنما هي إثارة الخوف والرغبة في آن واحد، في قلب هذا الكائن الذي اختاره الله خليفة له في الأرض.فيعيش حياته الدنيوية بين خوف ورجاء، خوف من العذاب الأليم، ورجاء في النعيم المقيم. فبذلك ينزجر عن الضلال والمعصية وما مآله الهلاك والخسران، ويتبع طريق الهدى والحق لما يفضي إليه من نجاة و سعادة ورضوان. وقد أثنى ربنا عز وجل على عباده الذين أحسنوا الجمع بين الخوف والرجاء، و تحققوا وتخلقوا بمقتضيات ذلك، وفي مقدمتهم الأنبياء ثم من اقتفى أثرهم من الصالحين. قال تعالى: إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (الأنبياء: 89). ومن حكم ابن عطاء الله السكندري رحمه الله «لا يخرج الشهوة من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق».
لذا نجد القرآن الكريم يقدم لنا كثيرا من الآيات والسور القوية والبليغة في الترهيب والترغيب، مع التنوع في الأسلوب والتعبير، فيصور لنا أهوال الساعة ومشاهد القيامة، وأحوال أهل النار وأهل الجنة في الآخرة كأنها رأي العين. وهو كلام الله الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد (فصلت: 41).
تعريف بالسورة:
سورة القارعة نموذج لهذا النوع من الكلام المثير للخوف والرعب من أهوال يوم القيامة و شدائدها. مما يجعل المتلقي يحسب ألف حساب لذلك اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . فيدفعه ذلك إلى البحث عن طرق النجاة، والاستعداد بتحصيل الزاد الكافي من التقوى وأعمال الخير ليجتازه بسلام ويحط رحاله في دار السلام.
هذه السورة المباركة هي سورة مكية. ولم يرد خلاف فيما بين أيدينا من مصاحف وكتب تفسير وحديث حول تسميتها ب «سورة القارعة». وتعد الثلاثين في عداد نزول السور، كما ورد في التحرير والتنوير للشيخ الطاهر بن عاشور (12/509 دار سحنون تونس). نزلت بعد سورة قريش وقبل سورة القيامة. واختلف العلماء في عدد آياتها بين ثمان وعشر وإحدى عشر. أما ترتيبها في المصحف فهي تأتي بعد «سورة العاديات». قال الإمام أبو جعفر بن الزبير في شأن تناسب بدايتها مع خاتمة سورة العاديات التي قبلها: لما قال الله سبحانه وتعالى أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور كان ذلك مظنة لأن يسأل متى ذلك، فقيل يوم القيامة، الهائل الأمر، الفظيع الحال، الشديد البأس. والقيامة هي القارعة (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام برهان الدين البقاعي (8/513) دار الكتب العلمية).
بيان عام للسورة:
القارعة كناية عن يوم القيامة. وقد وردت هذه اللفظة دالة على ذلك بصيغة أكثر صراحة في سورة الحاقة في قوله تعالى كذبت ثمود وعاد بالقارعة (الحاقة: 3). ولعلها سميت بالقارعة لأنها تقرع القلوب والأسماع بهولها. والقارعة كالطامة والصاخة والحاقة والغاشية والزلزلة… كلها ألفاظ تنذر بهول عظيم، وأمر فظيع، وافتتاح هذه السورة بهذا الأسلوب المفزع في معناه ومبناه، يثير المشاعر والفكر، ويستفز القلب ويجعله متشوقا لسماع ما يأتي بعد من خبر. يقول الشيخ محمد علي الصابوني القارعة ما القارعة أي القيامة. وأي شيء هي القيامة؟ إنها في الفظاعة والفخامة بحيث لا يدركها خيال, ولا يبلغها وهم إنسان. فهي أعظم من أن توصف أو تصور. ثم زاد في التفخيم والتهويل لشأنها فقال وماادراك ما القارعة (صفوة التفاسير (3/595)دار القلم لبنان) و ما هنا استفهامية، صادقة على شخص، والتقدير وأي شخص أدراك, وهو مستعمل في تعظيم حقيقتها وهولها، لأن هول الأمر يستلزم البحث عن تعرفه. و أدراك بمعنى أعلمك (التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور12/511).
إن أمر القارعة أمر مهول حقا، ومفزع للقلوب أشد ما يكون الفزع. كيف لا وهولها يؤثر على طبيعة الكون، ويغير الأجرام العظيمة، التي يبدو الإنسان بحجمه أمامها شيئا ضئيلا، ونقطة صغيرة لا تكاد ترى ولو بالمجهر، حيث تنشق السماء وتنفطر، وتكور الشمس وتنكسف، وتنكدر النجوم والكواكب وتنتثر، وتزلزل الأرض زلزالا، وتدك الجبال دكا، وغير ذلك مما يحدث في الكون من تغيرات هائلة ومرعبة.
بعد هذه البداية المتضمنة لهذا التهويل والتشويق الذي يجعل القارئ والسامع يتطلع بلهفة لمعرفة بعض أحوال هذه القارعة، يأتي البيان في قوله تعالى يوم يكون الناس كالفراش المبثوت ، أي سيكون حال الناس يوم القيامة كحال الفراش المنتشر الذي تعرفون حاله في واقعكم المشاهد اليوم. والفراش قيل انه فرخ الجراد حين يخرج من بيضه من الأرض يركب بعضه بعضا. وقيل إنه يطلق على ما يطير من الحشرات ويتساقط على النار ليلا. قال حمزة الكرماني: شبههم بالفراش التي تطير من هنا ومن هنا، ولا تجري على سمت واحد، وهي همج يجتلبها السراج. وقال غيره: وجه الشبه الكثرة والانتشار والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي من كل جانب كما تتطاير الفراش، وكثرة التهافت في النار، وركوب بعضهم بعضا، وموج بعضهم في بعض، من شدة الهول، كما قال تعالى: كأنهم جراد منتشر (القمر: 7) (نظم الدرر (8/514)).
وبعد بيان حال الناس يوم القيامة وتشبيهه بحال الفراش المبثوث، تأتي الآية الموالية لتسوق مشهدا آخر لا يقل غرابة، سيحدث في هذا اليوم العصيب، وذلك في قوله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش . ويقصد بالعهن المنفوش الصوف المصبوغ الملون. لأن الجبال مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها، قال تعالى: ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها . والمنفوش المفرق بعض أجزائه عن بعض ليغزل أو تحشى به الحشايا. ووجه الشبه تفرق الأجزاء لأن الجبال تندك بالزلزال ونحوها فتتفرق أجزاء.(التحرير والتنوير(12/512)).
وهذا التشبيه للناس بالفراش المبثوث، والجبال بالعهن المنفوش، بليغ في دلالاته، وعميق في تأثيره على المتلقي لكلام الله تعالى بصدق ويقين. فهو كما يقول الشيخ محمد عزة دروزة: مستمد من مألوفات الناس ومداركهم. فالفراش دائم الاضطراب والتحويم والانتشار. وسيكون الناس كذلك يوم القيامة من شدة القلق والرعب. والجبال معروفة بصلابتها وصخورها ورسوخها في الأرض، وارتفاعها في السماء، فأريد إفهام السامعين أن أشدما يعرفونه صلابة ورسوخا يتفكك وينحل، ويصبح كالعهن المنفوش رخاوة ولينا وخفة من شدة الهول. (التفسير الحديث (2/183) دار الغرب الإسلامي).
ولا شك أن هذا المشهد المهول، مع ما ورد قبله من عبارات مفزعة، تقرع القلوب والآذان، يشكلان نسقا ممهدا لما سيأتي بعدهما من نهاية حاسمة، تتعلق بشأن الحساب والجزاء الممثلان للعدالة الإلهية المطلقة. جاء في (الظلال): (فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها، مع آثار القرعة في الناس والجبال سواء. وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر، تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء).(6/3960).
وهذا الحساب والجزاء الذي يجعل الناس في ذلك اليوم منقسمين إلى فريقين، لا ثالث لهما، إما فريق السعداء، وإما فريق الأشقياء والعياذ بالله. قال تعالى: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ، أي من رجحت موازين حسناته وغلبت حسناته سيئاته فسيكون من الفائزين بالعيشة الراضية في جنات الخلد، والتي أعد الله لعباده المؤمنين الصالحين فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كما ورد في بعض الآثار. وقد وردت لفظة موازينه بصيغة الجمع، نظرا لكثرة أنواع الموزونات من الأعمال، والتي لا يثقل منها، ولا يكون له قيمة إلا ما رضيه رب العباد. جاء في التحرير والتنوير «وثقل الموازين كناية عن كونه بمحل الرضا من الله تعالى لكثرة حسناته, لأن ثقل الميزان يستلزم ثقل الموزون، وإنما توزن الأشياء المرغوب في اقتنائها, وقد شاع عند العرب الكناية عن الفضل والشرف وأصالة الرأي بالوزن ونحوه, وبضد ذلك يقولون: فلانا لا يقام له وزن, قال تعالى: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (12/513).
وبعد بيان حال و مصير من ثقلت موازينه يأتي بيان ومصير من خفت موازينه من الأشقياء التعساء، فقال تعالى: وأما من خفت موازينه فأمه هاوية أي أن من غلبت سيئاته حسناته، أو لم يكن له حسنات معتبرة، فمأواه ومستقره جهنم وبئس المصير. وعبر عنها بالأم لأنها تؤويه وتضمه إليها، كما تؤوي الأم أولادها وتضمهم. و الهاوية أي نار نازلة سافلة جدا, فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلا وهو في عيشه ساخطة, فالآية من الاحتباك، ذكر العيشة أولا دليلا على حذفها ثانيا، وذكر الأم ثانيا دليلا على حذفها أولا. (نظم الدرر (8/515)).
وما أدراك ماهية أي وما أعلمك ما الهاوية, مهما كلفت نفسك عناء البحث لمعرفة حقيقتها، ولا أحد من الناس عهد مثلها، فيمكنه أن يعرفك بها قياسا على ذلك.
جاء في نظم الدرر: وهاء السكت إشارة إلى أن ذكرها مما يكرب القلب حتى لايقدر على الاسترسال في الكلام, أو إلى أنها مما ينبغي للسامع أن يقرع بهذا الاستفهام عنها سمعه فيسكت لسماع الجواب وفهمه غاية السكوت، ويصغي غاية الإصغاء. ((8/515))
فجاء بعد هذا الاستفهام المفيد للتفخيم والتهويل تفسير هذه الهاوية بأنها نار حامية يعني شديدة الحرارة أعادنا الله منها ووقانا حرها بجوده وكرمه.

د. محمد محتريم

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>