لا يخفى على دارسي سيرة صحابة رسول الله ميزة وخصائص كل صحابي، إذ كل واحد منهم حباه الله تعالى بميزات ميزته عن إخوانه وأقرانه، واشتهر بها عما سواه، ويبين هذه الحقيقة قول الرسول كما ورد في سنن الترمذي وابن ماجة عن أنس مرفوعا: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ألا وإن لكل أمة أمينا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح»(قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، رقم 3790)
والذي أريد الوقوف عنده هنا هو زيد بن ثابت ، فهو بمقتضى هذه الشهادة النبوية عالم متخصص في الفرائض، وقد ورد في رواية أخرى عند ابن سعد في الطبقات عن أنس مرفوعا: «أفرض أمتي زيد بن ثابت»(2/359). وخطب عمر بالجابية فقال: “من كان يريد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت” (الطبقات الكبرى 2/359)
لكن النبش في سيرة هذا العظيم يكشف لنا عن جوانب أخرى من جوانب العظمة والإمامة والتفوق، وأحب في هذا المقام أن أتحدث عن الملامح التالية من ملامح هذه الشخصية الفذة:
- زيد وتعلم الكتابة:
من المعلوم لدى دارسي السيرة النبوية أن بعض الأسرى في بدر كان ثمنُ فدائهم هو تعليمَ أبناء الصحابة الكتابة، وقد كان زيد من جملة المستفيدين من هذه المبادرة النبوية الشريفة، يقول ابن سعد رحمه الله: “وكان فداء أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده علم عشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن علم” (2/22).
- حفظه القرآن كاملا:
كان محفوظ الصحابة الكرام رضي الله عنهم من القرآن متفاوتا، وقليل منهم من تيسر له حفظه كاملا، وزيد بن ثابت كان من جملة هذا القليل، يقول أنس بن مالك : “جمع القرآن على عهد النبي أربعة، كلهم من الأنصار: أبي، ومعاذ بن جبل، وأبو زيد، وزيد بن ثابت” (صحيح البخاري رقم 3810). وعن الشعبي قال: “جمع القرآن على عهد رسول الله ستة نفر، أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعد، وأبو زيد” (الطبقات 2/356).
- تعلم اللغات والترجمة للنبي :
ورد عن زيد بن ثابت في سنن أبي داود قال: “أمرني رسول الله فتعلمت له كتاب يهود، وقال: “إني والله ما آمن يهود على كتابي” فتعلمته، فلم يمر بي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب له إذا كتب، وأقرأ له إذا كُتب إليه” (رقم 3645). وعند ابن سعد يقول زيد : “قال لي رسول الله : «إنه يأتيني كتب من أناس لا أحب أن يقرأها كل أحد، فهل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية أو السريانية؟ فقلت نعم. فتعلمتها في سبع عشر ليلة» (2/358).
هذان الحديثان يبينان لنا حرص النبي -وهو رئيس الدولة وإمامها- على وجود التكامل في أبناء الأمة، وعدم الاحتياج إلى الاستعانة بغير المسلمين في أمور الدولة المهمة التي يجب أن تكون سرية، كما يبينان الاستجابة السريعة من الصحابة الكرام، والاستعداد لتلبية كل حاجات الأمة، وسد خصاصاتها، كما يبينان ذكاء زيد، وعزيمته القوية، وتضحياته الجسيمة، وكيف تعلم اللغة في سبع عشرة ليلة ، واستطاع أن يقرأها ويكتب بها.
- إمامته في العلم والفتوى والقضاء:
إلى جانب تفوق زيد في الفرائض، فإنه كان أيضا أنموذج العلماء الموسوعيين في صدر هذه الأمة، فكان ذا باع طويل في ميادين علمية شتى، فهو كما قال الذهبي رحمه الله: “شيخ المقرئين والفرضيين، مفتي المدينة، كاتب الوحي”( سير أعلام النبلاء 2/434). وفي الطبقات لا بن سعد عن محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: “كان الذين يفتون على عهد رسول الله ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار، عمر، وعثمان، وعلي، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت” (2/350).
وعن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد أحدا في القضاء والفتوى والفرائض. (الطبقات 2/359).
وعن قبيصة بن ذؤيب قال: كان زيد بن ثابت مترئسا بالمدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض في عهد عمر وعثمان وعلي في مقامه بالمدينة. (نفسه 2/260).
وعن مسروق قال: قدمت المدينة فسألت عن أصحاب النبي فإذا زيد بن ثابت من الراسخين في العلم. (نفسه).
ويقول أبو عمر ابن عبد البر في الاستيعاب في معرفة الأصحاب: وكانوا يقولون: غلب زيد بن ثابت الناس على اثنين، الفرائض والقرآن. (2/539).
فرضي الله تعالى عن زيد بن ثابت وأصحابه، وجعلنا على نهجهم سالكين، والحمد لله رب العالمين.
ذ. عبد الصمد احسيسن