خروق في سفينة المجتمع 70 -التطاول على العلماء


يمثل علماء الأمة العاملون طليعتها المرموقة، ونخبتها الممتازة التي تقع منها موقع القلب النابض، والمرشد الأمين الذي يوضح المسالك ويفك المغاليق، وموقع الرائد الذي لا يكذب أهله، لما يستشعره من جسامة المسؤولية، وعظم الأمانة، وذلك هو مناط ما تكتسبه من حسن تقدير واعتبار لدى شرائح المجتمع، يتحول عبر الزمن إلى رمزية تشكل جزءا معتبرا من المرجعية العليا التي تنتظم بها أحوال الناس، ويستقيم أمرهم على صعيد تمثل قيم الإسلام وتطبيق أحكامه، في ضوء ما يدركونه من مقاصد الدين القيم. ولا تزال الأمة بخير ما تواتر احترام العلماء العاملين فيها وإنزالهم المنزلة التي يستحقون من التبجيل والإجلال، لأن ذلك يمثل عاملا نفسيا تقوم عليه دعامة الثقة التي تتقوى بها لحمة المجتمع، وتقوم حركة إيجابية من التفاعل البناء الذي تتعزز به نهضة المجتمع ويتقوى نسيجه الاجتماعي بفضل ذلك التفاعل الذي تكون مادته ومحوره ما يقدمه الدين من حلول لمشكلات الحياة ونوازلها، ومن تأطير شامل لإيقاعها المتسارع في خضم التدافع بين الحق والباطل، يملك العلماء آلياته الدقيقة، وأضواءه الكاشفة، بفضل ما يؤهلهم له تخصصهم ورسوخهم في علوم الشريعة، وغوصهم في مقاصدها، وإمساكهم بخيوط الفهم لمفردات أحكامها.
أما إذا اختلت العلاقة بين العلماء والمجتمع، بسبب الارتياب في مصداقية وظيفتهم أو الاعتقاد بعدم جدواهم، فإن ذلك يكون مدخلا لخرق كبير وشر مستطير، يتمثل في قابلية الناس للدخول تدريجيا في فوضى عارمة، وفي موجة هوجاء عاتية من التفلت من ربقة الدين، أو من الارتباط به بخيوط واهية من الأوهام والتخرصات، التي تنتهي في نهاية المطاف إلى دين موهوم قوامه الأهواء والظنون.
وإذا وقع المجتمع في هذا المنزلق، فإن أصبع الاتهام توجه رأسا إلى طائفة من المرجفين الذين يناجزون العلماء الكراهية والعداء، لأنهم يكرهون الدين ويجادلون فيما يتضمنه من أحكام وتشريعات، ويرون أنفسهم أحق بالتصدر والريادة واستقطاب الأضواء من شرائح المجتمع، ويعتقدون أنهم يملكون مفاتيح التقدم وأسرار النهوض والازدهار، بفضل ما يحملونه من أفكار وأطروحات وعقائد، هي والدين على طرفي نقيض.
إن تلك الطائفة التي ترى لنفسها امتيازا على العلماء، وتخول نفسها حق انتقادهم وتسفيه مواقفهم ومبادراتهم وفتاواهم، بل وقذفهم بأقذع النعوت والاتهامات، ورميهم بسهام مسمومة من الأكاذيب والافتراءات، تشكل بصنيعها ذاك خرقا شنيعا في سفينة المجتمع يعرضها لأخطار محدقة تتمثل في زرع بذور الشك والمساس بهيبة هيئة مجتمعية هي بمثابة صمام الأمان الذي يقيها المزالق والاختلالات.
وإننا إذا ما حاولنا استقراء أسباب السقوط في هذا المنزلق الخطير، وجدنا أبرزها متمثلا في ضمور وازع التقديس للدين نفسه، بسبب اعتياد الناس على رؤية أحكام دينية بعينها وهي تنتهك، وحدود معلومة من الدين بالضرورة وهي تتعدى وتخترق، فالتجرؤ على علماء الدين هو تابع بالضرورة للتجرؤ على أحكام الدين، وحدود الدين.
إن ما يجري في مجتمعنا من إطلاق ألسنة المعترضين على الدين لتلغ في أعراض علماء الدين هو استكمال لسلسلة صدئة ومخطط قذر، يستهدف تطبيع أفراد المجتمع مع هذه الظاهرة المشينة التي تهدده بالانجراف نحو هاوية التيه والضياع.
إن من مظاهر كرامة العلماء العاملين في الإسلام أن جعلهم مأجورين حتى في حالة الخطأ، وإن من شروط هيبة مجتمع يريد أن يحظى بشرف الانتساب إلى الإسلام أن يذود عن علمائه الذين يمثلون وجهه الناصع وطليعته النافذة. وبئس الإعلام إذا كان يحبك الخطط المدمرة، وينصب الفخاخ للإيقاع بالعلماء الشرفاء الذين أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن، وتوفير أسباب الأمن في ربوعه وأرجائه. وبئس أشباه المثقفين الذين لا هم لهم إلا الاصطياد في الماء العكر، والاتجار في بضائع مغشوشة كاسدة.
إنه من عجيب المفارقات، أنه بدلا من درء ما يتعرض له المجتمع من اختلالات، وتطهيره من مظاهر السوء وأسباب التعفن، يفسح المجال للمتخصصين في زرع الفتن للنبش في ذاكرة أرشيف العلماء، بقصد اجتزاء كلمات مبتورة يرام بها كيدهم ظلما وعلوا.
ألم يكن الأولى على سبيل المثال لا الحصر التوجه بالشجب والمحاسبة والملام، لوزيرة سابقة جعلت من الدعوة إلى تعرية المرأة جزءا من رسالتها، تحت ذريعة زائفة هي المساواة بالرجل، وكأن الرجل في مجتمعنا معروف بالعري. وتزداد إمعانا في غيها ومطالبها البلهاء، عندما تطالب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بتوظيف الخطباء لمشاطرتها في دعوتها المستهترة بقيم الدين وأحكامه المقدسة.
وصدق الله القائل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (الأعراف: 175 – 177).

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>