خروق في سفينة المجتمع 69 – خرق سوء فهم الدين


من مفارقات هذا الزمان ومعالم الغربة والغرابة فيه، أن يوضع الدين في قفص الاتهام، وتلصق به أشنع الأوصاف والنعوت، وقد لا نقترف مبالغة إذا قلنا إنه يصنف في أعلى قائمة المطلوبين عالميا للتحقيق معهم في لائحة مزعومة من الجرائم والخطايا. ولا تخطئ عين اللبيب أن المقصود بالدين في المجال التداولي العام في أغلب الأحوال، إنما هو الإسلام، فكل القرائن تفيد هذا التخصيص. وتأبى القوى التي تناجز الدين العداء إلا أن تفصل له في كل مرحلة ما تراه مناسبا من النعوت والألقاب القادحة بقصد التنفير منه والإبعاد عن حماه، وبث روح الكراهية والتحقير لكل ما يرتبط به من تعاليم وقيم وأحكام في نفوس الناس، بقصد امتصاص ما تكنه له من قداسة وتوقير. فهو في مرحلة صولة المد الاشتراكي والشيوعي عنوان الرجعية والتخلف، وإبان طلائع الصحوة قرين الظلامية والعنف، وفي مرحلة استواء موجة العولمة وعتو القطبية الغربية صنو التطرف والإرهاب، بل منبعه الذي لا منبع له سواه، ويوشك أن يجعل في عنقه كل الكوارث والمآسي التي تتجرعها البشرية، وكل البلايا والأوجاع التي تمسك بخناقها وتعربد بساحتها.
وقد يكون من دواعي الحزن والأسى أن ينساق كثير من الغافلين وراء تلك الدعاوى الباطلة المرفوعة ضد دين الله الذي أنزله سبحانه رحمة للعالمين مصداقا لقوله  مخاطبا رسوله الكريم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء: 107)، ويضطر المنافحون عنه أن يصرفوا جهودا استثنائية لرد سهام الجهلة، وحماية المستهدفين بها وسط خضم متلاطم رهيب من عمليات التحريف والتلفيق، والغلو والإبطال التي تسعى بكل الأساليب والحيل إلى أن تعطل وظيفة الدين في حياة الناس. غير أن الذي يبعث الأمل في مقابل ذلك، أن صوت الفطرة في نفوس السواد الأعظم من الناس، هو بمثابة اللقاح الذي يصد جراثيم الوباء، ويشكل حداء الإنسانية الراشدة في طريق الثبات على الحق، وذود المتربصين به.
إن عقدة العقد ومعضلة المعضلات فيما يجري من فتن وبلايا يحرص المغالطون على إلصاقها بالدين إنما هي سوء فهم الدين، فلم يكن الدين في يوم من الأيام في عيون العقلاء وأولي الألباب سببا للشرور والآلام، أو الخطايا والآثام، أو منصة لزرع الخرافات والأوهام، بل إنه كان على الدوام منبعا للخير والحكمة، ومصدرا للمحبة والوئام. بل إننا قد نكون في وضعنا الراهن أمام حالة غريبة تمثل عائقا أشد ضررا وعتوا من سوء فهم الدين، هي تبييت النية وسبق الإصرار على العزوف عن فهم الدين، استجابة لقوى خفية ظاهرة، يشكل رأس الحربة فيها هوى مستحكم مطاع.
وإذا كان هذا العائق الأخير مستعصيا على الإزالة والهدم، فإن عائق سوء فهم الدين قابل للإزالة عن طريق توفير أسباب الفهم الصحيح لقواعد الإسلام وكلياته الكبرى، ولمفرداته وتعاليمه وأحكامه التفصيلية، عبر آليات منهجية توظف وسائل العصر وتقنياته، ومكتسباته على مستوى علوم التربية، وشواهده على مستوى ما يضج به المجتمع الإنساني من أمثلة وعبر ودروس وعظات، في ضوء تمثل قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (فصلت: 53).
إن الذين يطالبون بمراجعة مادة التربية لإسلامية أو قيم التربية الإسلامية في المقررات الدراسية لا بد أن نميز فيهم بين فريقين:
- فريق نفترض فيه حسن النية ونقول له بأن الأمر يتعلق قبل مطلب المراجعة بمطلب حسن الإرساء للمادة عبر أطراف المنظومة وشعبها ومفاصلها، وبتوفير القدر الكافي من جرعاتها الذي يحصل به الشفاء من جميع العلل والأمراض، مصداقا لقول الله تعالى: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (الإسراء: 82). لأن الجرعات القليلة المبتورة قد تؤدي إلى عكس المراد.
- أما الفريق الآخر فهو الفريق الاستئصالي الذي يطالب جهارا بإخراج الإسلام جملة وتفصيلا، ليس من التعليم فحسب، بل من النظام المجتمعي برمته، وهؤلاء يطلبون المحال، ويسعون إلى عرقلة السير وإرباك حركة الشعب، ويسبحون ضد التيار، في موقف انتحاري مريب، لسان حالهم ما جاء في قوله تعالى: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (فصلت: 29).

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>