تدل الوقائع ذات الصلة باللغة -وكغيرها من الأمور الاجتماعية، فضلا عن السياسية- أن القرار السياسي له الدور الأساسي والأكبر في كل ما يتعلق بحماية اللغة، وكل ما له صلة بتطويرها وتقدمها، بل وتحويلها من حال إلى حال.
ولقد عرف التاريخ الحديث نماذج للغات عديدة، أُشيرَ إلى بعضها في مقال سابق من هذا العمود. وأشيرُ هنا هذه المرة إلى ما هو معروف للجميع مما يتعلق باللغة التركية؛ إذ من المعلوم أن أتاتورك أمر بتغيير كتابة هذه اللغة من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، وذلك سنة 1927م، ثم أعلن بعد ذلك سنة 1932م عن تأسيس «جمعية اللغة التركية»، بهدف «تتريك» هذه اللغة، بتغيير ما أمكن من الكلمات ذات الأصل العربي والفارسي بما يُقابلها من التركية، ونجحت التجربة هناك، فاللغة التركية الحديثة –كما هو معلوم- ليست هي اللغة القديمة التي يصطلح عليها ب «اللغة العثمانية»، حتى من حيث المعجم، ومما يدل على ذلك أن اسم هذه الجمعية التي قامت بدور «التتريك» تغيرت مكوناتها اللفظية، حيث إن اسم الجمعية كان «جمعية تدقيق اللغة التركية» (Türk Dili Tetkik Cemiyeti)، وتحول إلى: (Türk Dil Kurumu)، وذلك بسبب وجود كلمتي: (Tetkik) (تدقيق)و(Cemiyeti) (جمعية)، ذواتي الأصل العربي. كما أن خطاب أتاتورك الذي ألقاه أمام البرلمان التركي الحديث سنة 1927، والذي كان بالتركية العثمانية، لم يعد مفهوما لدى الأجيال التي أتت من بعد، ولذلك تُرجم ثلاث مرات إلى التركية المعاصرة: الأولى في سنة 1963، والثانية في سنة 1986، والثالثة في سنة 1995.
وتكررت التجربة التركية ذاتها تقريبا في عدد من الدول الإسلامية التي كانت تستعمل الحرف العربي لكتابة لغاتها، ومنها الصومال حينما اتخذ رئيسه سياد بري سنة 1972 قرارا باعتماد الحرف اللاتيني بدل الحرف العربي في كتابة الصومالية، وذلك بعد محاولات عديدة في هذا الاتجاه بدأت قبل الحرب العالمية الثانية، واستمرت خلال فترة الاستعمار، وبرزت بشكل كبير بعد الاستقلال، إذ أن الدولة التي جاءت بعد الاستقلال شكلت بعد شهرين من عمرها لجنة سميت “لجنة اللغة الصومالية” كُلفت بدراسة الحرف الأمثل لكتابة اللغة الصومالية وتقديم هذه الدراسة للحكومة في مدة لا تتجاوز ستة أشهر. وقدمت هذه اللجنة نتائج الدراسة وأوصت باتخاذ الحرف اللاتيني، بذريعة انسجام الحرف اللاتيني مع الواقع الحالي، إذ أن جل المدارس كانت إنجليزية أو إيطالية، والطالب لا يجد صعوبة في الانتقال من الانجليزية أو الإيطالية إلى الصومالية المكتوبة بالحرف اللاتيني، إلى جانب توفر مطابع باللغة اللاتينية، إلا أن الحكومة لم تعتمد هذه التوصية خوفاً من إثارة الرأي العام ضدها.
ولكن القرار السياسي لا يكون نافذا إذا لم تصاحبه إرادة سياسية قوية من أجل التنفيذ مهما كانت العراقيل، ولقد عرف المغرب أكثر من قرار باعتماد اللغة العربية في جميع الإدارات، منها الدورية رقم 98/253 التي صدرت سنة 1998 التي جاء فيها بأنه «تماشيا مع بنود الدستور التي تنص على أن اللغة العربية لغة رسمية للدولة، فإن كل الإدارات والمؤسسات العامة والجماعات المحلية ملزمة باستعمال اللغة العربية في مراسلاتها، ونتيجة لذلك فإن جميع المراسلات المكتوبة بلغة أخرى ممنوعة منعا باتا». ولكن كل ذلك طواه النسيان والإهمال، لأن الحياة بكل جوانبها تقوم على العمل بعد النيات الصادقة، وليس على القول وحده، خاصة إن كان القول مرهونا بظرف أو شعار سياسي فإنه دائما يكون من قبيل: «كلام الليل يمحوه النهار».
ومن القرارات السياسية في الآونة الأخيرة ذات الشأن اللغوي ما أصدره مؤخرا مجلس الوزراء بدولة قطر حينما صادق على مشروع قانون حماية اللغة العربية، الذي يتضمن من بين أحكامه «بأن تلتزم الوزارات والمؤسسات الرسمية، والمؤسسات التعليمية الرسمية في جميع مراحل التعليم، والبلديات، باستخدام اللغة العربية في جميع ما يصدر عنها من أنظمة وتعليمات ووثائق وعقود ومعاملات ومراسلات وتسميات وبرامج ومنشورات وإعلانات، كما تلتزم الجامعات القطرية العامة ومؤسسات التعليم العالي التي تشرف عليها الحكومة بالتدريس باللغة العربية في جميع العلوم والمعارف». وهو القرار الذي يؤمل له النجاح وأن يُرى تفعيله على أرض الواقع، وأن يكون مثالا يُحتذى من قبل الأقطار الأخرى.
د. عبد الرحيم الرحموني