نعمة الغذاء وقيمتها في حفظ هوية الأمة الإسلامية 3


بعد الحديث عن نعمة الأمن، ونعمة الصحة في المقالين السابقين، انطلاقا من قول النَّبِيِّ : «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» الأدب المفرد للبخاري. نختم الكلام في هذه الحلقة عن نعمة توفير الطعام باعتباره ركيزة أساسية لتحقيق الحياة الآمنة. فما هي إذن الوسائل التي اعتمدها الإسلام لتحقيق الأمن الغذائي؟ وما هي ثمرات توفره في المجتمع الإسلامي؟
1 – من أهم وسائل تحقيق الأمن الغذائي في الإسلام:
أ – تقوى الله تعالى:
أشار الحديث في قوله : «..عنده طعام يومه..» إلى أهم عوامل الاستقرار والسعادة في الحياة البشرية؛ ومنها تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطعام الذي يتطلب وجود سياسة اقتصادية إسلامية ناجحة؛ فالأمن الغذائي له علاقة وطيدة بالأمن السياسي العام، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف (قريش:3-4). لقد أنعم الله على قريش بأمرين: الأمن الغذائي، والاستقرار السياسي والاجتماعي، فوجب عليهم من أجل ذلك أن يتوجهوا بالعبادة والشكر لرب البيت الذي أبعد عنهم أفات الفقر وفتنة الخوف.
إن توفير الطعام مرتبط بعبادة الله تعالى وشكره والثناء عليه؛ لأنه بذالك يزيد الله في الرزق ويبارك فيه. قال تعالى: لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد (إبراهيم: 7). فالطغيان والتجبر في الأرض من أهم أسباب الفقر والجوع، والتقوى والخوف من الله من أفضل الوسائل لفتح أبواب الرزق، قال تعالى: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (الطلاق:2-3) وقال : ولو أن أهل القرى آمنوا وتقوا لفتحنا عليهم بركات السماء والأرض (الأعراف:96).
وأعتقد أن ما نعيشه من فتن وفقر، وما ابتلينا به هذه السنة من قلة الغيث ليس إلا نتيجة انغماسنا في المعاصي وعدم محاسبتنا لأنفسنا، فالقلوب قست، والفواحش انتشرت، ولا علاج إلا بالتوبة والاستغفار و التوكل على الله في طلب الرزق، قال : «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» سنن الترمذي، وابن ماجه. فغياب التوكل على الله، وشكره على نعمه سبب كل الأزمات الاقتصادية، والسياسية.. مصداقا لقوله تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الأنفال:53).
ب – العمل والتخطيط:
إن تحقيق الأمن الغذائي الذي أشار إليه الرسول : «عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ..» لا يحصل بالتمني والاتكال، وإنما بالعمل الجاد الذي ينبني على تخطيط دقيق ومحكم؛ لأننا في عصر تدار فيه أمور العباد من طرف المهيمن على اقتصاد السوق، وللأسف هذا المهيمن ليس من المسلمين؛ لهذا يجب على الأمة الإسلامية أن تعيد النظر في سياستها الاقتصادية، وتضع لذلك مخططا استراتيجيا تأخذ مبادئه من الكتاب العزيز الذي حرم الإسراف والتبذير، قال تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (الأعراف:31). وقال تعالى: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء:27).
وعقاب مختلس أموال المسلمين بعقوبة شديدة كفيلة بحفظ أموالهم إذا ما طبقت، قال تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما (المائدة: 38). وحتى لا تسند أمور المسلمين للصوص والخائنين فقد علمنا القرآن من خلال قصة يوسف أن نقدم الأصلح والأكثر أمانة، قال تعالى على لسان يوسف عليه السلام: قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (يوسف:55). ويكفي أن نقرأ سورة يوسف لنعرف كيف دبر أمور أهل مصر في سنوات الجفاف بكفاءته، وأمانته، وعدله.
وفوق هذا وذاك؛ فقد دعا الإسلام إلى العمل فقال تعالى: هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور (الملك:15). فلا عذر لأي مسلم قادر على العمل أن يتكل على غيره ويحمل المسؤولية للدولة وحدها، فالله أمرنا بالعمل كيف ما كان نوعه لنبني اقتصادا إسلاميا مستمدا من ضوابط الشريعة ومقاصدها.
ومن خلال هذه المبادئ العامة، انطلق الرسول ومن بعده الخلفاء الراشدون في بناء اقتصاد إسلامي محكم يضمن توفير الغذاء للمسلمين؛ فبمجرد وصوله للمدينة أمر بإنشاء سوق للمسلمين، بعد ما كان اليهود يسيطرون على سوقها آنذاك، حتى لا يبقى المسلمون تحت رحمتهم اقتصاديا، ثم دعم هذا السوق بالدعوة إلى الزراعة وعمارة الأرض، فقال : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» سنن الترمذي. وقال : «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل» مسند احمد. ثم أعلا شأن المسلم الذي يأكل من عمل يده فقال : «ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» صحيح البخاري.
2 – من ثمرات تحقيق الأمن الغذائي:
أ – حفظ كرامة الأمة الإسلامية:
لا أحد ينكر أن النجاح الاقتصادي للأمة الإسلامية، يجعلها تعيش بكرامة بين باقي الأمم، وأفرادها يشعرون بالأمن والاستقرار؛ لأنهم يملكون قوت يومهم، وأن إرهاب الجوع لن يهدد وجودهم ولن يعيشوا عالة على غيرهم متسولين منبطحين، قال : «لأن يغدو أحدكم، %D