نعمة الصحة وآثار الـمحافظة عليها ورعايتها في بناء مجتمع سليم 2


سبق الكلام عن نعمة الأمن في الحلقة الماضية، وسأتحدث في هذه الحلقة عن نعمة الصحة انطلاقا من قول الرسول «من أصبح… معافى في جسده» وذلك بتوزيع مضامين هذا الجزء من الحديث إلى ما يلي:
1 – حفظ الصحة ورعايتها مسؤولية مشتركة بين الفرد والمجتمع:
اهتم الإسلام بنعمة الصحة وجعل حفظها من مقاصد الشريعة الغراء؛ ذلك أن وجود الأمة الإسلامية بمعناه الحقيقي يتطلب تمتع أفراد مجتمعها بصحة جيدة. من هنا كانت المحافظة عليها مسؤولية مشتركة بين الفرد الذي يفترض فيه أن يكون مهيئا بدنيا ونفسيا للمساهمة في بناء الدولة الإسلامية، وبين الدولة التي يجب عليها أن توفر الشروط الواقعية والموضوعية لتحقيق الرعاية الصحية لكل مواطنيها. فالرعاية الصحية في الإسلام تنبعث من هذه المسؤولية المشتركة لقوله : «المؤمن القوي، خير وأَحب إِلى اللهِ من الْمؤْمن الضعيف، وَفي كُل خير..»(صحيح مسلم). ولن يكون المؤمن قويا طبعا إلابعقل سليم وجسم معافى من الأمراض.
فنعمة الصحة مغبون فيها كثير من الناس أفراد وجماعات، قال النَّبي : «نعمتان مغبون فِيهما كثير من النَّاس الصحةُ والفراغُ»(صحيح البخاري). فالحديث يشير إلى مشكل معاصر عويص يتجلى في كيفية توظيف واستثمارالموارد البشرية؛ إذ قد يكون للدولة طاقات بشرية هائلة تنعم بالصحة والشباب لكن يقتلها الفراغ؛ فمن هنا كان الغبن في نعمة الصحة مسؤولية الفرد والمجتمع، فنعمة الصحة لايجوزإهدارها في الجلوس على أرصفة المقاهي، أوتضييع الساعات الطوال في متابعة الأفلام والمسلسلات، فليس هذا منهج المسلم الذي يثق بالله تعالى ويتوكل عليه؛ فالعمل مهمة الإنسان في الوجود.
إن نعمة الصحة مصدر قوة الأمة الإسلامية، وقد أمرنا الله جل وعلا باكتساب القوة لتحقيق التمكن في الأرض،قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة (الأنفال: 60). ولا توجد قوة دون الاعتناء بصحة الفرد عقليا عن طريق التعليم، وجسميا عن طريق توفير البنية الأساسية للقطاع الصحي؛ من مستشفيات، ومراكز صحية، وتجهيزات طبية، وأدوية، وموارد بشرية مؤهلة، لبناء مجتمع صحي ينعم فيه الفقير والغني بالرعاية الصحية دون تمييز أوإقصاء حتى يصبح الجميع معافى في جسده؛ لأن الحفاظ على الصحة مسؤولية الدولة أيضا، فهي مجبرة على تبني مخطط اقتصادي يهدف إلى توفير كل الظروف الملائمة لرعاية المواطن صحيا. لكن للأسف؛ فبعض قادة هذه الأمة لا يفكرون إلا في أنفسهم ومصالحهم الخاصة؛ حيث يهرعون إلى المستشفيات في الدول الغربية للعلاج، ويتركون أبناء مجتمعهم يتجرعون آلام الأمراض والإهمال.
2 – من آثار حفظ الصحة تأمين سلامة المجتمع من عوامل الانهيار:
الإسلام دين عملي واقعي لا يترك الأمور تسير على عواهنها، بل الشريعة الإسلامية تفرض نفسها بقواعدها وضوابطها ومقاصدها على واقع المسلم فردا كان أو جماعة؛ لذلك بادرت إلى اعتماد أسلوب وقائي للحفاظ على الصحة؛
فحرمت كل الأطعمة والأشربة التي تضر بصحة الإنسان؛ مثل أكل لحم الخنزير، والميتة، والدم، وشرب الخمر، قال تعالى: ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث (الأعراف: 15).
وحرمت الزنا فقال تعالى: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا (الإسراء: 32).إن الابتعاد عن الفواحش والمحرمات ليس حرية شخصية اختيارية، بل الأمر يتعلق بمصير الأمة بكاملها، إذ شأن هذه الخبائث أنها تنتشر في جسم المجتمع الإسلامي فيصاب أفراده بالأمراض والأوبئة المعدية، فتسبب قتل الناس، وتكلف الدولة أموالا طائلة لمحاربتها؛ كالسيدا، والإيبولا وغيرهما. هذه الأموال من الأفضل توجيهها لتحقيق المصلحة العامة، بدل صرفها على أشخاص تعمدوا تخريب صحتهم بالإقبال على الخمر، والمخدرات، والزنا. إن الإسلام اعتمد منهج الوقاية حتى لا يدفع المجتمع كله ثمن تهور بعض أفراده.
وفي المقابل حث الإسلام على الاهتمام بالجسد، والتغذية المتوازنة، قال : «.. فإن لجسدك عليك حقا» (صحيح البخاري). وقال : «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن. بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (سنن الترمذي).
كماجعل الإسلام النظافة والطهارة سلوكا إجباريا على كل مسلم، قال : «غُسْل يوم الجمعة واجب على كل مُحتلمٍ» (صحيح البخاري). هذه التدابير الوقائية وغيرها كثير؛ لكي يستطيع المسلم أن يقوم بالرسالة التي كلف بها على أحسن وجه، لأن تحقق معنى العبودية الكاملة يحصل من المؤمن المتمتع بالصحة والعافية، فلايشغل باله مرض ولا ألم، كما أن عمارة الأرض، والمساهمة في بناء المجتمع يتم بطريقة أفضل من قبل مسلم سليم الجسم والعقل لا من قبل من هو عليل البدن سقيم النفس، مصاب في عقله.
وقد حرص الإسلام على محاربة انتشار الأوبئة فأمر بتطبيق الحجر الصحي، قال : «لا يوردَنَّ مُمرِضٌ على مُصح»(صحيح البخاري). وذلك منعًا لانتشار الأمراض في المجتمع. وقَال : «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» (صحيح البخاري).
3 – من آثار توفر الرعاية الصحية بناء مجتمع قوي ومزدهر:
دعا الإسلام إلى معالجة الأمراض وعدم الاستسلام لها، فالحياة ثمينة في الإسلام يحرم التفريط فيها ويجب الاجتهاد لتوفير شروط تحقيقها، وتحصيل أسباب سعادتها. والصحة أهم أسباب سعادة الإنسان وراحته، قَال رسول اللهِ : «إن الله  أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام»(سنن أبي داود). فهذا أمر نبوي بوجوب التداوي وهو يبطل ما يروج عن قصد من كون الإسلام يدعوا إلى الاستسلام للمرض باعتباره من الله تعالى فلا يجوزعلاجه، فهذه مغالطات وأفكار دخيلة على ديننا الحنيف، بل الصواب أن الله سبحانه أوجب على كل مسلم أن يأخذ بالأسباب، ومن ذلك البحث عن الدواء وطرق العلاج، قال تعالى: فاسألواأهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل:43). يجب التمييز بين العلاج والشفاء؛ فالعلاج مسؤولية الإنسان يجتهد فيه ويبحث عنه، والشفاء خاص بالله العفو الرحيم فهو الشافي. وقد جعل لكل داء دواء، لهذا فمهمتنا هي أن نبحث عن الدواء المناسب للداء.
كما أنالإسلام كان صريحا في تحريم الاعتماد على المشعوذين والسحرة والكهنة في أمور الحياة وعلى رأسها الصحة، فلا يجوز للمسلم أن يسلم جسده لمشعوذ أو ساحر بدعوى أنه يعلم طرق العلاج وغيرها، فذاك خطير دينيا؛ لأنك قد تقع في الكفر، ودنيويا؛ إذ تخاطر بحياتك فتخضعها لتجارب الدجالين الجهلة. قال رسول الله : «ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد »(مسند البزار).
إن دعوة الإسلام إلى العلاج تتضمن أمرا بوجوب تعلم الطب وتخصيص طائفة من المسلمين رجالا ونساء لهذه الغاية، هذا الأمر لم نستوعبه لحد الآن؛ لأننا نعيش تأخرا ملحوظا في هذا المجال، سواء على مستوى الكفاءات البشرية، أوالبنيات الأساسية؛ فمعظم الأدوية تأتينا من دول أجنبية ولا نعرف مكوناتها ولا مخاطرها وكأن عقولنا توقفت.
ثم إن الإسلام اهتم بالعلاج النفسي للمريض؛ فدعا إلى زيارته والاعتناء به حتي يشعر بقيمته وأهميته داخل المجتمع فيمتثل بطريقة سريعة للعلاج، يقول الرسول في الحديث القدسي: «إن الله  يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»(صحيح مسلم).
فالصحة النفسية من أهم ما يجب الاعتناء به؛ إذ بفواتها يخسر المسلم الدنيا والآخرة عكس الصحة البدنية التي قد تفوت عليه التمتع بالدنيا فقط إذا صبر. لهذا كان الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه، وشكره في السراء والضراء، أهم طريقة لعلاج المؤمن نفسيا، إذ يشعر بالطمأنينة والراحة لأن الله سبحانه يعوضه بما هو خير. قال رسول الله : «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له»(صحيح مسلم).
ومن هذا المنطلق؛ كان الرسول إلى التفاؤل يدعو فقال: «لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة»(صحيح مسلم). وكان يتعوذ من الحزن والهم، فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين، وغلبة الرجال»(صحيح البخاري).
إذا قد ثبت من خلال النصوص الشرعية الصحيحة؛ أن الإسلام دين عملي يعتمد أنجع الطرق لحفظ صحة الإنسان الجسمية والنفسية والعقلية، وأنه راعى مبدأ التوازن في ذلك، وهو ما يفتقده غير المسلم؛ لهذا نجد نسبة الأمراض النفسية كالقلق، والاضطراب، والاكتئاب،ونسبة الانتحار مرتفعة لدى غير المسلمين وإن كان بعضهم يمتلك مستشفيات جيدة، ووسائل العلاج المادية متقدمة، إلا أنه ينقصهم الجانب النفسي وعلاجه موجود فقط في الإسلام؛ لأن الأمر يتعلق بالروح وهي من أمر الله، قال تعالى: قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (الإسراء: 85). فهي لا ترتاح ولا تسعد إلا بقربها من الله تعالى لتحقق العافية الجسدية والنفسية في ذلك

ذ.محمد البخاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>