لا يجهل أحد مكانة حامل القرآن في المجتمع المسلم، فمكانته رفيعة، ومنزلته شريفة جدا؛ ذلك لأنه يحمل في صدره النور العظيم الذي أنزله الله تعالى هدى للناس، ومعجزة خالدة أبد الدهر، فهو يحمل بين جنبيه كلام الرب العظيم، الكلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد وردت نصوص تبين مكانته عند الله جل جلاله، وأكتفي في ذلك بنص واحد هنا، وذلك ما ورد في سنن أبي داود عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : «إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ»، فمكانة حامل القرآن واضحة وضوحا بينا من خلال هذا الحديث الشريف، إذ جعل النبي الكريم من صور إجلال الله وتعظيمه إكرام حامل كتابه، وكفى بهذا تشريفا وتعظيما لحامل الكتاب؛ لكن ذلك لا يدفع للزهو والفخر بقدر ما يثقل كاهل حامل القرآن؛ لتحقيق الشرطين المذكورين في الحديث، ومن النماذج العملية من السيرة العطرة -على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام- التي تبين مكانة حامل القرآن الكريم؛ خبر عمرو بن سلمة الجرمي ، فقد ورد عند أبي داود عن عمرو بن سلمة عن أبيه أنهم وفدوا إلى النبى فلما أرادوا أن ينصرفوا قالوا: يا رسول الله من يؤمنا، قال: «أكثركم جمعا للقرآن». أو «أخذا للقرآن». قال فلم يكن أحد من القوم جمع ما جمعته -قال- فقدموني وأنا غلام، وعلى شملة لي، فما شهدت مجمعا من جرم إلا كنت إمامهم، وكنت أصلى على جنائزهم إلى يومي هذا. فواضح من هذا كيف أن النبي يعطي لحامل القرآن مكانة أعلى وأرفع، وبدون شك؛ فالقوم سيكون فيهم من هو أكبر من هذا الغلام، ومع ذلك ينال هو هذا المنصب العظيم؛ منصب الإمامة في الدين، وهو مقام الأنبياء، وهو منصب لا تؤهل له أي شهادة في الدنيا؛ بل يؤهل له حفظ كتاب الله تعالى، والتفقه في أحكامه.
ونموذج آخر من السيرة أيضا ما يذكره أهل السير في دفن شهداء أحد، وتقديم النبي إياهم على حسب التفاوت في الحفظ، فقد ورد عند ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله كان يجمع بين الرجلين والثلاثة من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: “أيهم أكثر أخذا للقرآن؟” فإذا أشير له إلى أحدهم قدمه في اللحد، وقال: “أنا شهيد على هؤلاء”، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يصل عليهم، ولم يغسلوا، ومن النماذج العملية أيضا نموذج عثمان بن أبي العاص الذي أمره رسول الله على قومه -أهل ثقيف- عندما وفدوا عليه مسلمين مبايعين -وهو من أصغر القوم- بسبب حرصه على جمع القرآن والتفقه في الدين. يقول ابن إسحاق رحمه الله في قصتهم: “…فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنا، وذلك أنه كان أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن. فقال أبو بكر لرسول الله . يا رسول الله: إني قد رأيت هذا الغلام منهم من أحرصهم على التفقه في الإسلام وتعلم القرآن.
فهذه نماذج عملية من رحاب السيرة العطرة تبين بوضوح مكانة حملة القرآن ومنزلتهم، وفي المقابل لم يكن حملة القرآن مسرورين مغتبطين بهذا الأمر، واقفين مكتوفي الأيدي اغترارا بهذه المرتبة السامية؛ بل قدروا الأمر حق قدره، وعلموا مكانتهم التي تبوؤوها، فجاهدوا أنفسهم ليعطوا لهذا الأمر حقه، ويكفينا هنا أن نسمع رد سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما عندما قال له أصحابه -وقد حمل الراية في معركة اليمامة- نخشى أن نؤتى من قبلك، فقال في حزم وعزم: “بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قبلي”. فقد علم أن حامل القرآن عنصر فعال في مجتمعه، نافع لأمته، لا تؤتى من قبله، ولا ينفذ إليها شيء من ثغر هو مرابط فيه. وهنا يجب أن نقف نحن -حملة القرآن- لنرى هل نقوم بواجبنا تجاه أمتنا؟ وهل نستحق حقا ذلك الإكرام الرباني الذي يتجلى فيه إجلال الله تعالى وتعظيمه؟
أسأل الله العظيم أن يجعل القرآن الكريم حجة لنا يوم نلقاه، ويجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ذ. عبد الصمد احسيسن
———————-
- كتاب الآداب، باب في تنزيل الناس منازلهم، رقم الحديث: 4845.
- كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة، الحديث رقم: 587.
- كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم، الحديث رقم: 1514.
- سيرة ابن هشام، 2/538.
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 2/551.