يصعب على المرء أن يقدّم لكتاب عزيز رحل … ولكن مما يهوّن الأمر ويغري بالمحاولة أنها نوع من سداد الدين في رقبة كل من عرف “رعد الحيالي” باحثاً وإنساناً.
لقد أتيح لي منذ تسعينيات القرن المنصرم أن أكتب مقدمة مستفيضة لكتابه القيّم الذي طبع أكثر من مرة : (إلى كل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر) … وها أنا ذا أقدّم لعمله الجديد (رؤية إسلامية في قضايا معاصرة) ، ومن عجب أنه العنوان نفسه لكتاب لي صدر ضمن سلسلة كتاب الأمة في قطر عام 1995م.
والحق أن ما يميّز كتابات الحيالي التي لقيت رواجاً ملحوظاً لدى القرّاء، أنها تعالج قضايا ميدانية مما يتشكل في نسيج العصر… إنه يعرف كيف يلتقطها الواحدة تلو الأخرى، فيسلط عليها إضاءاته التحليلية الكاشفة، ويضعها بإيجابها وسلبها، بين يدي القارئ لكي يكون أكثر وعياً بمعطيات العصر وتحدّياته.
وبمجرد قراءة سريعة لعناوين المباحث الخمسة التي يتضمنها هذا الكتاب، يتأكد للقارئ كم أن الحيالي كان يريد لمتابعيه أن يتحققوا برؤية موضوعية ثاقبة لقضايا العصر ومستجداته، من خلال وضعها تحت الأنظار، وتسليط المعايير الإسلامية على حلقاتها كافة، والوصول بالتالي إلى جملة من القناعات الفكرية تمكن المسلم المعاصر من التعاطي الأكثر شفافية مع قضايا العصر.
“الإعلام الإسلامي: الواقع والحقيقة”، “ملاحظات إسلامية حول نعوت التطرف والأصولية”، “لماذا هذه الحرب ضد العالم الإسلامي؟”، “العولمة وخيارات المواجهة”، ثم “لا وقت للفراغ في حياة المسلم”.
تلك هي المباحث الخمسة التي ينطوي عليها الكتاب الذي يجده القارئ بين يديه… إن (الحيالي) يعرف كيف يختار الموضوعات الأكثر سخونة وإلحاحاً ومعاصرة لكي يتخذ منها فرصة للبحث والتحليل، ويضع يده كطبيب متمرس على مواطن الداء، لكي يصف الدواء المناسب في ضوء سياقات ثلاثة: المعيار الإسلامي، والخبرة الوضعية، والواقع المشهود.
وليس بمقدور أحد ممن يعيش قضايا العصر ويكتوي بنارها، ألاّ يكترث أو يقلّل من أهمية الإعلام الإسلامي في عصر ما يسمى (بالإعلامية) التي مكنتها آليات العولمة من أن توصل خطابها إلى كل حجيرة أو خلية من خلايا حياتنا اليومية العقدية والسياسية والثقافية والسلوكية على حد سواء، والتي يتحتم أن نوليها الاهتمام الكافي بالدراسة والتخطيط وتهيئة اسباب العمل وإقامة الحلقات والمؤسسات التي تعرف كيف توظف هذه الأداة الفاعلة لخدمة هذا الدين، ومطالب الأمة التي تنتمي إليه، لئلا يدفعها تخلخل الضغط إلى المزيد من الهزائم والانكسارات والانسحاب من ساحات العالم وتحدّياته التي لا يفتر أوارها لحظة واحدة.
إن (الحيالي) يريد أن يقول بأن “الإعلام” بدلاً من أن يكون سلاحاً موجهاً ضدّنا، فان علينا أن نعتمده سلاحاً بأيدينا نحن، وحينذاك سنعرف كيف نصل إلى العالم بخطابنا الإسلامي الحضاري المدهش الذي تتضاءل دونه كل المشاريع الوضعية والدينية المحرفة… وإن خلاص الإنسان والبشرية من “المعيشة الضنك” التي تأخذ بخناق العالم، لن يتحقق إلاّ بهذا الدين.
والعولمة، حلقة أو تحدٍّ آخر يجد المسلمون اليوم أنفسهم في مواجهتها وعليهم أن يختاروا، فإما الهروب والانسحاب وإعطاء الفرصة بالتالي للطرف الآخر كي يأتي على ما تبقى من قيمنا وثوابتنا وخصوصياتنا، وإما الدراسة المتأنية والمتبصّرة بطبيعة الظاهرة من أجل إيجاد الممرات الممكنة التي تهيئ للأمة سبل المواجهة الإيجابية الفاعلة أخذاً وعطاءً، للخروج من المحنة بأقل قدر ممكن من الكسور… إن عنوان البحث يحمل دلالته في هذا المجال:
“العولمة وخيارات المواجهة”، والذي يبدأ بالتعريف بماهية العولمة وملامحها الأساسية، ثم يمضي للحديث عن سبل التعامل مع الظاهرة في سياقاتها الثقافية والاقتصادية والعلمية … ثم يختم بوقفة عند البديل الإسلامي للعولمة الذي قد يبدو لغير المتفائلين بعيداً، ولكن المسلم الجاد يراه قريباً، شريطة أن تأخذ الأمة بالأسباب التي تمكنها من العودة إلى الفعل التاريخي والحضاري كرة أخرى “إن المسلمين – يقول المؤلف – يبدون أكثر الفئات تأهيلاً لقيادة العالم وإرساء نظام عالمي جديد وبديل لما هو موجود على الساحة، فالأنظمة الاقتصادية والسياسية تقوم على مبادئ وقيم يؤمن بها أصحابها إيماناً قاطعاً، فهي تضم في ثناياها جوانب عقدية وثقافية تشكل تلك المبادي والقيم. فالمنطق القائم على تفضيل جنس بشري على آخر هو منطق نفعي كاسر يدمّر إنسانية الإنسان ويسحق ثقافته، ولابّد أن يواجه بعقيدة وثقافة تحترم كرامة الإنسان وثقافته، وتتعامل بمعايير عدل تسمو بإنسانية الإنسان وترتقي بثقافته، وتكيل بمكيال واحد لا كيلين، وذلك من لب ديننا الحنيف”.
وثمة في آخر الكتاب مبحث يتناول قضية أخرى لم يولها الباحثون الإسلاميون ما تستحقه من اهتمام، وهي مسألة توظيف الفراغ في حياة المسلم. ولقد سبق للشيخ محمد الغزالي (رحمه الله تعالى) أن عالج المسألة في كتابه القيّم (الإسلام والطاقات المعطلة)، كما أن العديد من الفضائيات الإسلامية أخذت عبر السنوات الأخيرة تقدّم جملة من البرامج في هذا الاتجاه … ومع ذلك فالحاجة لا تزال قائمة للمزيد من البحوث التي تعرف كيف ترشّد لسبل التعامل مع الوقت أو الفراغ في حياة المسلم، والتي سبق للرسول المعلّم أن أشار إليها ونبّه عليها في أكثر من حديث فيما هو معروف.
بعد التقديم للموضوع يعرض المؤلف للمفهوم الأوربي لوقت الفراغ الذي ينطوي لديهم على أهميته البالغة، حتى “لقد تحولت (إشكالية وقت الفراغ) في مدركات العقل الإنساني الحديث إلى علم اجتماع قائم بذاته هو “علم اجتماع وقت الفراغ” ـو”سوسيولوجيا وقت الفراغ”، يتناول بالعرض والتحليل والمتابعة الميدانية، والبرمجة الوظيفية، كافة متعلقات موضوع (وقت الفراغ) كفرع علمي”.
وكعادته، ما يلبث المؤلف أن يقدم للقارئ الوجه الآخر للصورة: المفهوم الإسلامي لوقت الفراغ، مشكلاً تأسيساته من معطيات كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، لكي يخلص إلى القول بأن “المتتبع لآي القرآن الكريم، وحديث النبي ، يجد أنه لا توجد إشارة إلى وجود وقت مستقطع من حياة المسلم يمكن وصفه بتعبير (وقت الفراغ) كمصطلح يعبر عن المفهوم المعاصر”.
وإننا لنتذكر هنا كيف كان رسول الله يمزج الليل بالنهار، مواصلاً كدحه من أجل بناء دولة الإسلام ونشر عقيدتها في الآفاق، وكيف أنه حقق في مدى زمني قياسي، وفي السياقين الديني والدنيوي، ما عجز عن تحقيقه أساطين الزعامة والقيادة
في العالم عبر تاريخه الطويل، فيما دفع الباحث الأمريكي (مايكل هارث) إلى أن يرشح في كتابه المعروف (المائة الأوائل) محمد بن عبد الله كأعظم شخصية في تاريخ البشرية بمعيار الإنجاز، أي بمعيار التعامل مع الوقت!!
يمضي المؤلف لاستعراض خصائص الوقت من مثل “سرعة الانقضاء” وأن “ما مضى لا يعود” وأنه “أثمن ما يملك الإنسان” إذا عرف كيف يحسن التوظيف. ينتقل بعدها للحديث عن “تنظيم الوقت في حياة المسلم” ويقدم ما يشبه برنامج عمل يومي لتحقيق المطلوب، ثم يختم بوضع (معالم) مهمة (في طريق الحلّ) مؤكداً أن الجهد الإسلامي لحل إشكالية (وقت الفراغ) ينبغي أن يصرف باتجاهين فكري وعملي، وأولهما يتعلق بتصحيح المفاهيم، وثانيهما يتوجه إلى السيطرة على النشاط الترويحي في المجتمع.
ورغم أن ظاهرة الترويح هذه تشغل مساحة واسعة في الحضارة الغربية المعاصرة، ورغم أنها تعكس حالة ثقافية وسلوكية ملتوية، وفي حالة تضاد مع الكثير من الثوابت الدينية والإيمانية عموماً، ورغم أنها في التأسيسات الإسلامية لقيت الكثير من الاهتمام،
إلاّ أن الكتابات الإسلامية المعاصرة لم تكن كفاء لهذا كله … وها هو ذا المؤلف يملأ جانباً من الفراغ، ويقدم للقارئ إضاءة طيبة بخصوص التعامل مع الترويح الذي يلتحم بالحركة الحضارية في المجتمع، ويتناغم مع نسيج المشروع الحضاري الإسلامي.
د. عماد الدين خليل