لا جدال في أن موقع الأدب في حياة الإنسان، باعتباره حاجة حيوية عميقة ومتأصلة في كيانه الوجودي النفسي، هو موقع راسخ ومتميز رسوخ الفطرة في ذلك الكيان، إلى الحد الذي يمكننا من القول : إن الإنسان كائن (حتى لا أقول: حيوان) أديب أو متأدب، فلا مناص له من الاستجابة لتلك الحاجة، ومن إشباعها بما يساهم بشكل فعال في تحقيق توازنه النفسي. غير أنه لا بد لنا في هذا السياق، من أن نميز في المادة التي يتم بها، أو يتوخى منها الإشباع المذكور، بين مادة سليمة صافية تنسجم مع دواعي الفطرة وندائها العميق، وأشواقها الخالصة، ومادة تصادمها وترمي إلى تشويهها، أو حجبها بأغلفة سميكة من الزيف والانحراف، وصور التحلل والفجور، ففي الحالة الأولى نكون أمام أدب يقوم بوظيفته السامية في ترقية الإنسان وإرهاف حاسته الأدبية، وذوقه الفني، بما يؤهله ليكون عنصر بناء وإصلاح، بينما نكون في الحالة الأخرى أمام معول لنسف صرح القيم، وطمس معالم الإنسانية في الإنسان، بتجفيف أحد منابعها الغنية، أو تلويثها بعناصر سامة، بما يفضي إلى تعطيل وظيفتها، وجعلها حاجزا في طريق الحق والخير والجمال، ومن ثم يحق لنا القول بأننا في هذه الحالة إزاء شيء أو كائن غريب يسمى اللا أدب، وأن إطلاق تسمية الأدب عليه أو جعله ضمن شموله أو ماصدقه، إن هو إلا ظلم وافتئات وعدوان. وتتأكد هذه الحقيقة على وجه الخصوص في ظل لغتنا العربية الجميلة الراقية التي تختزن لفظة «الأدب» فيها معاني السمو الخلقي، والاستقامة السلوكية، فضلا عن سلامة الإحساس الوجداني ورهافة الانطباع والتقدير، إزاء مختلف مواقف الحياة، وفي خضم علاقاتها المتشابكة، التي تمثل حلبة تنافس ومحك اختبار، لتمييز المعدن النفيس من المعدن الخسيس. فصفة الأدب إذن تكون بهذا الاعتبار لمن اتصف بها عن جدارة واستحقاق، وساما يوشح صدره، ويبرز قدره.
وبناء على المعطيات السالف ذكرها، وفي ضوء ما يمثل اللا أدب أو يمثله اللا أدب من صور الإسفاف والانحطاط، والخسة والارتكاس، ندرك خطورة ما يمثله ذلك من خرق خطير تتآكل من جرائه سفينة المجتمع، وتتعرض للتفتيت، بتعرض من تحملهم، أو من يتحركون على ظهرها، للتدجين والتزييف، والمسخ والتشويه، وذلك من خلال تسريب المفاهيم الباطلة، والقيم المحرفة المقلوبة، التي تعمل على تسعير نيران الغرائز، وإسكات صوت العقل، وإتلاف وازع الدين، أو جعله يتوارى خلف ركام الشهوات، وحواجز اللذات.
ويمكننا أن نميز في اللا أدب بين أشكال وأنواع، تلتقي كلها عند نتيجة مشتركة وأثر مدمر عام:
شكل صارخ هو ذلك المتمثل فيما تقذف به المطابع والمؤسسات الثقافية والمحافل الأدبية من إنتاج ينضح بالتحلل وانعدام الحياء، والتجرؤ على قيم الدين، واستهداف مقومات الفطرة وعناصرها وأركانها، بإغراق الناس في مستنقع من البذاءة، وشدهم إلى جواذب الطين.
وشكل مبطن يتمثل في سيل من الإنتاج اللا معقول الذي يتوخى من خلاله الإجهاز على جهاز المناعة الأدبي و الإحساس الفني لدى الفئات المثقفة، وجمهور القراء والمستمعين بوجه عام، في سياق ترسيخ ما يسمى بالحداثة، كنمط فكري ينحو منحى التدمير لكل ما تعارفت عليه الإنسانية العاقلة من معايير المنطق وقواعد الإبداع والتفكير. ويكفي أن يتابع المرء ما تنشره بعض الملاحق الأدبية والثقافية لبعض المنابر عندنا ليدرك فداحة ما تتعرض له سفينة المجتمع من تخريب يصيب عقلها ووجدانها على السواء، وليبدو له جليا مدى الاستخفاف، وقبل ذلك التسيب الذي تعاني من وطأته الساحة الأدبية والثقافية بوجه عام، التي تشهد عملية هدر واستنزاف يصاب من خلاله الأدب في السويداء والصميم.
إن الساحة الثقافية والأدبية بحاجة ملحة إلى التطهير، من خلال خطة شاملة تقوم فيها مؤسسات الثقافة والتعليم والإعلام في إطار من التكامل وتفاعل الأدوار، بإعادة الاعتبار للأدب الحق في نصوعه وصفائه، من خلال ترسيخ معايير الجودة، وكسح ركام المغالطات، وإزالة آثار التشويه التي أصابت العقول والأذواق، ونالت من قدرة الناس على تمييز الغث من السمين والزائف من الأصيل.
وصدق الله القائل: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (الرعد: 17).
د. عبد المجيد بنمسعود