عندما نمعن النظر في طبيعة هذا الخرق، يحصل لنا يقين بجسامته ومركزيته ضمن الخروق جميعا، لا باعتباره خرقا مباشرا ملموسا كما هو شأن الخروق التي تظهر آثارها وعواقبها للناس في جانب من جوانب الحياة داخل سفينة المجتمع، بحيث يمكنهم قياس تلك الآثار على مستوى الكم والكيف، وتقدير المدى الذي تستغرقه في الزمان، ولكن باعتباره الأصل الذي تنطلق منه جميع الخروق، فما دام الأمر يتعلق بمجتمع قوامه جمع من الناس المفروض فيهم امتلاكهم حاسة العقل التي تؤهلهم للتمييز بين الحق والباطل في ضوء ضوابط الشرع، فإن ذلك يرتب عليهم مسئولية صريحة تجاه كل ما يقع من تصرفات ويجري من أحداث، بل وكل ما يتخلق من ظواهر، و ينسج من شبكات وعلاقات، فإذا ما تم استشعار هذا الشعور واستبطانه من قبل أعضاء سفينة المجتمع، على أساس من الوعي الحاد، والإدراك العميق، فإن ذلك يكون بمثابة الدرع الواقية وصمام الأمان ضد جميع الخروق والتفلتات.
أما إذا كان ذلك الشعور مفتقدا أو ضامرا لدى الناس، أو لدى السواد الأعظم منهم، فإننا نصبح أمام خرق واسع وعميق يهدد السفينة بشر مستطير، لا يزال ينمو ويتفاقم حتى يأتي عليها في نهاية المطاف، أو يذرها في أحسن الأحوال، في وضع من تكالبت عليه الأدواء والأسقام، فراح ينتظر نهايته الوشيكة حينا بعد حين.
ونحن إذ نتأمل أوضاع مجتمعنا الراهن، لا نتردد لحظة في الحكم بأنه يعاني من خرق اللامسئولية الذي لا يكاد يسلم منه قطاع من القطاعات، أو مجال من المجالات، أو مؤسسة من المؤسسات، فينعكس ذلك انحرافا في السير، وإخفاقا على مستوى تحقيق الأهداف والغايات، إن كانت هناك غايات.
فإذا أخذنا مؤسسة الأسرة ألفيناها مثالا صارخا للامسؤولية، فأغلب الأسر تبحر سفنها بلا بوصلة ولا مجداف، فهي تعالج الأمواج المتلاطمة والتيارات العاتية بصدور مضطربة وأنفاس لاهثة، وهي تكاد تسلم لها القياد نهائيا، وتنخرط في صفقة الذهاب إلى المجهول، في مشهد يثير الخوف والإشفاق.
وإذا ذهبت إلى قطاع التربية والتعليم، ارتسمت أمامك لوحة قاتمة السواد، رغم ما يبذله المزيفون من محاولات لبهرجتها ببعض الألوان التي تظل كسيفة باهتة، فالحقائق صارخة: مضامين مسمومة، وقيم متشاكسة، وهيبة مكسورة، ورمزية مثلومة، وأنفاس مكتومة، ولغة مهضومة، ومذكرات مشؤومة، وظهور للمعلمين مقصومة، فمن المسئول عن «منظومة» تتخطفها الشياطين، وتفرغ من الروح، ويزج بها في حمأة الطين؟
وإذا وقفت على ديوان الثقافة والإعلام وجدته ديوانا خربا تنعق فيه البومة والغربان، فأنت لا تطالعك فيه في الأغلب الأعم غير البذاءات التي تنسف الحياء وتذهب بمكارم الأخلاق، وتحل محلها طبائع الشقاق والنفاق.
وإذا أنت دخلت سوق السياسة والسياسيين، تملكك العجب من ارتفاع منسوب الصفاقة والكذب على الذقون، ومن قلب اللباس بين عشية وضحاها، وهالك منظر المبادئ وقد سجرت، وارتفعت حولها ألسنة النيران، ومنظر المغرر بهم وقد سقط في أيديهم وراحوا يندبون حظهم ويراجعون حسابهم.
وإذا استنطقت أحوال الناس على مستوى الأمن العام، راعك ما يتجرعونه من غم وآلام، وما يخيم عليهم من هواجس ومخاوف عظام، ففي كل لحظة تزهق أرواح، وتنتهك أعراض، وتروع أسر وأقوام، وتغتال آمال وأحلام.
وأما المال العام، فمستباح على مدى الشهور والأعوام، ويحكى أن العفاريت والتماسيح تذهب بأكياسه دوما إلى دهاليز يجهلها الخاص والعام، ولا غرو، فهي لا فرق عندها بين حلال وحرام، فاقرأ عليها يا أخي السلام.
وقس على ما سبق كل الشؤون، فخرق اللامسؤولية قد اخترق ميدان القول فحوله إلى منصة للبذاءة، وميدان للدجل، وبؤرة للسخافات، واخترق ميدان الفن، فحوله إلى عفن، واخترق ميدان اللباس، فحوله إلى مسوخ وأحلاس، فلم يبق لحاملها عقل ولا إحساس.
ليس غريبا أن يكون لخرق اللامسؤولية كل هذا الخطر الجسيم، لأنه ضد المسؤولية التي جعلها الله أس البنيان الإنساني، وأساس استخلاف الإنسان على هذه الأرض، فبها يجري البنيان ويتم العمران، وعلى أساسها تتم المساءلة والحساب، في يوم العرض والحساب، يقول الله سبحانه وتعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُون (الصافات:24) ويقول عز من قائل: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (الأعراف:6) ويقول الرسول : «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» (متفق عليه)
د. عبد المجيد بنمسعود