من الآثار الإيمانية لتعلم القرآن الكريم على المجتمع المسلم


إنَّ القرآن الكريم له أثرٌ عظيم على المجتمع المسلم المشتغل به، ومِنْ ثَمَّ ينسحب هذا الأثر على الأُمَّة المسلمة، فهو طريقٌ توصل إلى استقامتها؛ ذلك لأنَّ هذا المجتمع الذي يعيشُ بالقرآن دومًا حينما يستقيم أفراده لا بد أن تستقيم بهم الأمة؛ لأنه باستقامة الأفراد تستقيم الأمة؛ لأنَّ الأمة ما هي إلا أفراد، فالفرد أساسها ولَبِنتها، فإذا صَلَحَت اللبنة صَلَحَ كل ما تؤلفه.
وكثير من الخطابات القرآنيَّة جاءت تُخاطب الأُمَّة جميعها؛ بل هناك خطابات للناس أجمعين، ومن هذه الخطابات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (البقرة: 104)، وقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ (البقرة: 21)، وما من شك في أنَّ كل خطاب من هذه الخطابات مَعْنِي به الأفراد، كلُّ فردٍ على وجه الخصوص، ومعني به الأمة جميعها على وجه العموم.
وبناءً على ذلك، فكُلُّ أثر من الآثار الإيمانية التي ذكرنا أنَّها تعود على الفرد المسلم، فهي آثار إيمانية تعود -أيضًا- على الأمة المسلمة، فإذا أردنا أن نُقوِّم الأمة تقويمًا إيمانيًّا – من خلال القرآن الكريم – فلا بد أنْ نقوم أنفسنا كأفراد أولاً؛ لأنَّ الأمة ما هي إلا أفراد، فإذا سعى كلٌّ منا إلى تقويم نفسه، واستشعر هذه المسؤولية على عاتقه، فسيمتد الأثر بالطبع إلى من حوله، وقد أصاب عين الحقيقة مَن قال: إنَّ الإصلاح يبدأ من الفرد نفسه، ثم يأخذ بيد من هم بجواره الأقرب؛ لأنَّ الإنسانَ حينما يعرض على ربه للحساب سيسأل عن نفسه أولاً، ثم عمَّن يعولهم، فتتبع الدائرة عليه، والتي مركزها هي النَّفس حتى تشمل الأُمَّة بأسرها.
وكما أنَّ المشتغل بالقرآن تعليمًا وتعلمًا يسيطر القرآن على مشاعره، ويحدث التغيير في قلبه، فكذلك الأمة التي تنشغل بالقرآن لا بد أنَّ القرآنَ سيسيطر على اتِّجاهاتها، ويحدث التغيير فيها بأسرها، وكما أن القرآن يعرِّف العبد بربه، ويَربطه بالله تعالى، ويكون باعثًا له على خشية الله تعالى والفزع إلى ذكره، فكذلك في الأُمَّة يربطها بربها، ويكون باعثًا لها على الفزع إلى طريق الله في كل أمورها ومُعاملاتها.
ونستطيع أن نفصِّل الكلامَ في ذلك بعض الشيء فنقول:
- الاشتغال بالقرآن والتدبر في آياته تعليمًا وتعلمًا يزيد الأمة إيمانًا وتصديقًا، وهذا يكون سببًا في تقدمها وازدهارها، وفي ذلك يقول الله تعالى : إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (الأنفال: 2).
- الاشتغال بالقرآن تعليمًا وتعلمًا وتطبيقًا لما جاء فيه من حدود مُقوم للأُمَّة، وسبب لجلب الطمأنينة والرَّحمة، وجلب الرخاء والثبات والنصر لها على الأعداء؛ قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (محمد: 7 – 9).
- كما أن المشتغل بالقرآن من الأفراد له العطاء الزائد في الدُّنيا، فكذلك الأمة المؤمنة المهتمة بدستورها المطبقة لحدوده، لها العطاء الزائد في الدنيا بلا كد ولا نصب، وفي ذلك يقول تعالى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (الأعراف: 96).
- القرآن فيه شرف الأُمَّة، ولا شك في ذلك، ولا يتحقق ذلك إلا إذا آمنت به واشتغلت به، وانتفعت بما فيه؛ يقول الله تعالى : لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (الأنبياء: 10)؛ قال الطبري في جامع البيان: “اختلف أهلُ التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: فيه حديثكم، وقال آخرون: بل عني بالذِّكر في هذا الموضع الشَّرف، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم، ثُمَّ يقول: وذلك أنه شرف لمن اتبعه وعمل بما فيه.”
- والقرآن الكريم يؤثر في المجتمع المسلم، فيجعلُ مساجدَه عامرة بالمصلين المخبتين إلى الله تعالى رب العالمين، وينبه أفراده في كل وقت وحين إلى المسارعة لأداء الفرائض والسنن على أكمل وجه وأتمه.
- والقرآن الكريم يحمل المجتمع المسلم على الحكم بما أنزل الله تعالى فيُحكِّم شريعة الله في طريقة أداء عباداته، وفي مُعاملاتِه وأخلاقه وسلوكيَّاته، وقضائه، ويَحمله على الإخلاص وأداءِ العبادات بالطريقة الصحيحة لها؛ قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ (البينة: 5)
- والقرآن الكريم يُؤثر في المجتمع المسلم، فيزيد من تمسُّكه بسنة نبيه والأخذ بكلِّ ما جاءت به من أحكام وأخلاق وآداب، سواء أكانت مبينة لبعض ما جاء في القرآن الكريم، أم مخصصة لبعض ما جاء فيه عامًّا، وذلك هو العلم الحقيقي لكتاب الله الكريم، وسنة رسوله وقد قال الله عزَّ وجلّ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ (الحشر: 7)
فالتمسك بسنة النبي سواء أكانت قولاً، أم فعلاً، أم تقريرًا، أم صفة لها علاقة بالتبليغ عن الله تعالى ربنا، وهذا كله من آثار الاشتغال بالقرآن الكريم تعليمًا وتعلمًا.
- والقرآن الكريم يُؤثر في المجتمع المسلم المشتغل به، فهو يقوم بواجب الدَّعوة إلى الله تعالى ليعبده وحدَه لا يشرك به شيئًا، متبعًا في ذلك هدي رسوله وحدَه؛ قال الله تعالى عن هذه الأُمَّة وصفاتها: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران: 110).
- كذلك مَنِ اشتغل بالقُرآن الكريم، مكَّن له الله تعالى في الأرض، ويسَّر له أسباب الاستقرار وعدم الاضطراب.
قال تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ (النور: 55).
ولننظر إلى الرعيل الأوَّل لهذه الأُمَّة، فقد كانوا أكثر الناس اشتغالاً بالقرآن الكريم وأعظمهم اتِّباعًا له، كيف فتح الله – تعالى – لهم البلاد طولها وعرضها، وجعلهم يتغلبون على الجبابرة من أهل الكُفر والإلحاد، فأصبحوا بالقرآن الكريم سادة وقادة يدين لهم الكثيرون من أهل الأرض بالطاعة والولاء.
وصدق رسول الله : «إن الله تعالى ليرفع بهذا القرآن أقوامًا، ويضع به آخرين»(رواه مسلم وأحمد في المسند وابن ماجه والدارمي)
د. شعبان رمضان محمود
< موقع شبكة الألوكة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>