حديث بدء نزول الوحي 2


في الحلقة السابقة تناول الكاتب حديث بدء نزول الوحي، انطلاقا من نصه من صحيح البخاري، فتناول ما يتعلق بالمبشرات التي جعلها الله تعالى بين يدي بعثة رسول الله ، وفي هذه الحلقة يواصل استنباطاته لبعض الهدايات والتوجيهات من حديث أم المؤمنين عائشة .
ثالثا:
لما أراد المولى الرحيم جل وعلا رحمة الناس بالرحمة المهداة أنزل أمين الوحي جبريل بأول قطرة من غيث الوحي في ليلة الاثنين 21 رمضان (كما رجح العلامة المباركفوري في كتابه الرحيق المختوم). وإنه للقاء وأي لقاء. فتبارك من ثبت قلب محمد لاستيعابه، أما حكم هذا اللقاء الأول بين أمين السماء وأمين الأرض فعديدة منها:
أ – إن في اختيار الزمان والمكان عبرًا كثيرة دالة على قدرة الله تعالى المطلقة وإرادته النافذة، فقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الليل البهيم الذي عسعس يشرق صبحا قد تنفس تنقشع به ظلمات الشرك والجهل والظلم ليحل محلها نور الإيمان والعلم والعدل.
ومن هذا الغار البسيط المظلم فوق هذا الجبل المتواضع يخرج نور يملأ البسائط والبطاح إن ربي لطيف لما يشاء . وعلى هذا الفتى القرشي المبارك الذي انزوى منعزلا عن ترهات أهل مكة ينزل الأمر القدري الرباني بإحلال منهج الله جل وعلا الذي ارتضاه لعباد الله كلهم.
فلا ييأسن ورثة محمد من انجلاء ليل الاستكبار الذي أدخل الأرض ومن عليها في ظلمات ثلاث: ظلمة التجهيل والاستحمار، وظلمة التخويف والإرهاب، وظلمة التفقير والاستعباد، فإن صبح “اقرأ” قادم.
ب – هذه الطريقة التربوية العجيبة التي أوصل بها جبريل رسالة ربه إلى محمد ، والتي تدور أساسا على إثارة انتباه النبي باعتباره متلقيا متعلما ليكون على أعلى درجات اليقظة والإصغاء ليستوعب الدرس كاملا حالا ومقالا، وهو درس للمعلم الناجح والخطيب المقنع والواعظ المؤثر في ضرورة البحث عن الوسائل التي تثير انتباه المتلقين وتجعلهم حاضرين منصتين قلبا وقالبا.
لذلك فإن جبريل فاجأ محمد ، فما كان النبي يظن أن يأتيه أحد في هذا المكان وهذا الزمان وعلى هذه الهيئة، ثم أن يأمره بهذا الأمر الأغرب: “اقرأ”.
ومحمد ليس بقارئ بالمعنى الذي يفهمه العربي لهذه الكلمة، ثم إنه ليس بين يديه ما يقرأ فيه، ولم يسلمه جبريل شيئا يقرأ فيه، فأجاب الجواب الصادق “ما أنا بقارئ” فأخذه فغطه بأن ضمه إليه ضمة قوية بلغت منه الجهد، ومحمد أقوى الرجال جسما لذلك فهم أن الذي يفعل به هذا لا يمكن أن يكون بشرا، ثم أعاد الفعل ثلاث مرات ثم قال اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق اقرأ وبك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم .
فكأنما نقشت في صدره ورجع بها إلى خديجة يرجف فؤاده.
في تكرار القول والفعل إعلام لمحمد أن هذا عين يقين وحقيقة وليس رؤيا، وأن الأمر جد ليس بالهزل، وأن الوحي شديد حفظه وحمله، وأشد من ذلك تبليغه والجهاد به.
وهو يحتاج إلى ذكر لا تعروه غفلة، وشرة لا تخرمها فترة، وجد لا يعرف كسلا.
ج – أما عن الكلمات العظيمة التي تمثل الإعجاز التام في براعة الاستهلال من لدن الحكيم الخبير لكتابه الخالد المهيمن فإنني أحيل إلى ما نشرته جريدة المحجة الغراء من درر أستاذنا الشاهد البوشيخي عن الهدى المنهاجي المستنبط من هذه الآيات في العدد (رقم…) وكذا في كتابه النفيس بعنوان “نظرات في الهدى المنهاجي” غير أنه لا يفوتني في هذه العجالة أن أذكر فقط أن الرسالة بدأت بفعل لتدل أن هذا الدين دين فعل وعمل لا دين قول فقط، وأمرت بالقراءة لبيان أن هذا الدين دين علم ينطلق منه ويدعو إليه ويسير به ويجل أهله، لأن الإصلاح إنما يبدأ بالعلم ليستقيم التصور للأشياء المادية والمعنوية فتستقيم الأفعال والأحوال باعتبارها ناشئة عن العلم ونتيجة له، ولا عكس.
وأن أولَ العلم العلمُ بالله تعالى، فإذا حصل العبد هذا العلم حاز كل شيء، وإذا فاته فاته كل شيء. وأن أول ما يعلم عن الله تعالى أنه رب خالق معلم، ذلك أن أجل نعمة أنعمها الرب سبحانه على الإنسان بعد إيجاده من عدم هي تعليمه.
والآيات ترتب الكون كما بَرَأَه خالقه: الرب سبحانه الخالق المنعم، والإنسان المربوب المكلف، والكون المربوب المسخر.
ومحمد أمر بالقراءة وهو غير قارئ، ولكن بإذن الله وبحول الله وبفضل الله وبمشيئة الله سيصير قارئا بل رائد القراء ومقرئ المقرئين.
وسيتحول بهذه القراءة من محمد بن عبد الله إلى محمد رسول الله .
نقشت هذه الكلمات النورانية القريبة العهد بربها سبحانه على قلب رسول الله السوي النقي الطاهر، فرجع بها حية فاعلة مؤثرة محركة يرجف فؤاده، وحق لقلب حملها أن يرجف فيهتز، ويزكو فيربو، ويزهر فيثمر.
رجع إلى أهله رجوع الطير إلى عشه، لم يذهب إلى عمه ومربيه أبي طالب، ولم يقصد صديقه أبا بكر، ولا عمه وأخاه في الرضاعة حمزة… بل ذهب إلى زوجه خديجة، وكذلك يهفو الزوج إلى زوجه في السراء والضراء، إذا كان البيت لا صخب فيه ولا نصب كبيت خديجة رضي الله تعالى عنها.
(يتبع)

د. يوسف العلوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>