الاستغفار من مفاتيح الإصلاح


عن أنس بن مالك ، قال: سمعت رسول الله يقول: «قال الله تعالى: “يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة”»(رواه الترمذي وقال: حديث حسن).
إن هذا الحديث الشريف يتضمن ثلاثة مصابيح من النور، فإذا لازمها المسلم واستصحبها أنارت له الطريق في الدنيا فيسهل عليه كل صعب وينال كل مبتغى، وأضاءت دربه إلى الآخرة فينجو من غضب الله جل وعلا ويفوز برضاه. وسنقف مع هذا العطاء الرباني لعل الله سبحانه يشملنا بمغفرته ورضوانه.
1 – الدعاء مخ العبادة وجوهرها:
ما أحوجنا اليوم قبل أي وقت مضى إلى هذه العبادة التي أهملناها، وقصرنا في فهمها وتطبيقها وتعليمها لأجيالنا، قال الله تعالى: وقال ربكم ادعوني استجيب لكم (غافر:60). وقال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية (الأعراف: 55).
الدعاء مع الرجاء يغير كل شيء في حياة العبد إلى ما فيه صلاحه في الدنيا والآخرة، فالإنسان ضعيف بطبعه، قوي بربه؛ فهو يعينه ويشد من عزيمته في كل وقت وحين يتوجه فيه إليه متضرعا خاضعا وتائبا. قال تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب، أجيب دعوة الداعي إذا دعاني.. (البقرة،86). فالله تعالى دائما قريب من عباده، دائما رحيم بهم، دائما عفو عنهم.
لا تظن ولو لحظة واحدة أن الله لن يأخذ بيدك إذا دعوته بإلحاح، ورجوته وأنت موقن بقبول طلبك. فالله كريم لن يردك أبدا. فيجب أن يقبل عليه الداعي بقلب متذلل خاضع خائف طامع في رحمته ومغفرته، قال : «إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا»(سنن ابن ماجه).
المسلم العاقل من يحاسب نفسه قبل الأوان، ويزن عمله قبل عرضها على الميزان؛ ليعرف كم هو مقصر فيهرع إلى خالقه بالدعاء مع حضور القلب، ورجاء الإجابة من الله تعالى، عن أنس قال، قال رسول الله : «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة، ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له» (صحيح البخاري).
فالكثير منا يدعو الله وقلبه يفكر في أمور الدنيا، بل أحيانا يفكر في كيفية ارتكاب معصية، أنى يستجاب لمن حاله هكذا؟ فالمدخن يسال الله العفو عنه وسجارته في يده أو يهم باستعمالها، والتاجر يزيد في الميزان وفي نفس اللحظة يسأل الله البركة، والمريض يستعين بالكهنة والسحرة وهو يسأل الله التخفيف، والموظف يأخذ الرشوة وهو يدعو لصاحبها بالزيادة والنماء. هذا دعاء لكنه مع الإصرار على المعصية وهو مانع من الإجابة. عن أبي سعيد عن النبي ، قال:«ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر»(مسند الإمام أحمد). فلا نتعجل الإجابة لأن الله اعلم بمصالحنا.
فالله سبحانه يحب أن يرى عباده يلجؤون إليه في جوف الليل، وفي السجود، وفي السراء والضراء. فالغفلة عن الله السميع البصير سلاح فتاك توقع صاحبها في المهالك، لهذا كان السلاح المضاد للغفلة هو الدعاء، وقد حرص الرسول على تعليمنا الدعاء في كل زمان ومكان، وفي جميع الأحوال؛ عند الأكل، واللباس، والنوم، والاستيقاظ… لأنه بحق يحفظ الإنسان من كل مكروه؛ فأنت بتضرعك لله تعالى تضع كل أمورك بيده وهو الحافظ الأمين، فلا تخش شيئا إذا كنت دائم التسلح بالدعاء والتضرع لله .
فالمؤمن لا يملك من أمره شيئا فإذا ظلم طلب العفو من الله العفو الغفور، وإذا ظُلم طلب النصر من الله العزيز، وإذا مرض طلب الشفاء من الله تعالى. فكن متوكلا عليه آخذا بأسباب العيش، ملحا على الله بالدعاء ليوفقك في دينك ودنياك وآخرتك؛ لأنه هو القائل:«يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي».
2 – الاستغفار سفينة نجاة المسلم:
يقول : «يا ابن ادم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني، غفرت لك». هذا الأسلوب يدل على كثرة الذنوب والمعاصي التي قد يقع فيها الإنسان، فلو بلغت في كثرتها عنان السماء أي السحاب، أو أكثر من ذلك فان الله الستار الغفار قادر على ستر هذه الذنوب على المستغفر وتجاوزها عنه، يكفيه أن يلجأ إلى الله تعالى بقلب منكسر خائف يرجو مغفرته، وعازم على عدم العودة إلى مثل تلك الآثام، قال تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه (هود:3). وقال أيضا: واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (البقرة:199). وقد مدح الله تعالى المستغفرين بقوله تعالى: والمستغفرين بالأسحار (آل عمران:17). وقال أيضا: والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (آل عمران:135). فذكر الله يستوجب الرجوع إلى رحمته، والفرار من عذابه، والإكثار من طلب المغفرة، شريطة عدم الإصرار على الذنب لأنه متنافي مع الاستغفار.
المسلم يعلم يقينا أن الله  رحيم بعباده أكثر من رحمة الأم برضيعها، والله تعالى يفرح بتوبة العبد التارك للمعاصي النادم على ما فات منه من ذنب. وهو يعلم أيضا أن عليه الإسراع إلى هذا الطريق، لكن ما الذي يبطئه ويؤخره؟ إنه الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، لهذا كان الجهاد الأكبر هو جهاد النفس بواسطة الاستغفار والعمل الصالح، قال تعالى: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (النساء:110).
إن الاستغفار لا تقتصر بركاته على المستغفر، بل تمتد لتشمل كل محيطه؛ فبه ينزل الله المطر، وينبت الزرع، ويخرج الثمار، وينمي الذرية، ويزيد في قوة الأمة ونصرتها. قال تعالى على لسان نوح وهو يدعو قومه: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا (نوح:10-12). فنحن الآن أفرادا وجماعات، في أمس الحاجة إلى الاستغفار بقلب خالص لله تعالى نظرا للوضع الذي تعيشه الأمة الإسلامية؛ فلقد حبسنا المطر، وارتفعت الأسعار، وانتشرت الفاحشة، وعم المنكر بكل ألوانه وتجلياته، وسلط علينا عدو يقتل أبناءنا، ويستحيى نساءنا، ويفسد في أرضنا، ويذيقنا ألوان العذاب وأشدها، وما ذاك إلا لكثرة ذنوبنا وقلة استغفارنا.
والخطير في الأمر؛ أننا افترقنا أمما لا يهتم أحدنا لما يعيشه الآخر من أزمات، وكأننا لسنا أمة واحدة، فمن واجب المسلم على المسلم تقديم يد العون إليه بالدعاء والاستغفار له، لعل الله تعالى يفرج كرباتنا، ويهدينا إلى الطريق المستقيم، فالإكثار من الاستغفار يفتح الأبواب المغلقة، ويفرج الأزمات الصعبة، ويوجه المسلم إلى ما فيه صلاحه. فليكن لساننا آلة لا تتوقف عن طلب المغفرة؛ لأن الله غفور رحيم. ولهذا السبب كان الرسول يكثر من الاستغفار وهو سيد الخلق المغفور له، فعن أبي هريرة عن النبي ، قال: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»(صحيح البخاري).
3 – توحيد الله مفتاح قبول العمل الصالح:
قال : «يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لأتيتك بقرابها مغفرة».
إن الطريق الوحيد الذي يؤدي إلى الجنة ويبعد عن النار هو توحيد الله تعالى، وعدم الإشراك به، فلا يقبل الله  دعاء، ولا استغفارا، ولا أي عمل مهما كان أمره، إذا لم يكن صادرا عن قلب موحدٍ لله جل وعلا وخالٍ من شوائب الشرك به؛ قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء، 48).
فالخطايا مهما عظمت إذا لم يصاحبها شرك، فالله التواب الغفار قادر على تجاوزها بالاستغفار والعمل الصالح. ولا غرابة في ذلك، فإن الذنوب كلها تتصاغر أمام عظمة التوحيد، ولقد تكفّل الله تعالى لمن لم يشرك به شيئاً أن لا يعذّبه، كما جاء في حديث معاذ : «وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يُشرك به شيئا»(متفق عليه).
فالله هو وحده المتوكل عليه، والمستعان به في كل كبيرة وصغيرة، فلا ينفع الإنسان ساحر ولا كاهن ولا عراف، ولا ضريح يُتضرع إليه بدعوى قضاء الحوائج، ولا صاحب مال أو سلطة أو جاه، فالذي ينفع أو يضر هو الحي الذي لا ينام، القادر على كل شيء في أي مكان وزمان. فمهما كانت العوائق والصعوبات، وكيفما كانت المحن والشدائد، كل ذلك أمام عظمة الله جل جلاله لا يزن شيئا؛ فإذا كان هو صاحب السلطة المطلقة في هذا الكون، فإليه وحده يجب أن نخلص القصد بقلب مؤمن محسن مخلص، يدعوه ويرجوه ويطلب مغفرته، والله السميع المجيب لن يرد أحدا وقف أمام بابه؛ لأنه الكريم الرحمن الرحيم قال: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم (الزمر، 53).

ذ.محمد البخاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>