الإيمان بالله ربّاً ومقتضياته من خلال آية الكرسي 1/2


تقديم:
هذه الآية المباركة تعتبر أعظم آية في كتاب الله تعالى. وجاءت في أطول سورة على الإطلاق (سورة البقرة). وهي آية شأنها جليل، وقدرها عظيم، عباراتها وجيزة لكن دلالاتها عميقة، ومعانيها غزيرة. تتضمن خلاصة التعريف بالله  في جمال ألوهيته وجلال ربوبيته.
ذكر في فضلها أحاديث كثيرة فيها الصحيح وفيها الضعيف. ومما صح من ذلك:
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ»؟ قَالَ : قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ»؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ . قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ :«وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ» (مسلم).
وفي راوية: «… وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ لَهَا لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ الْمَلِكَ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ»، (أحمد، وصححها الألباني في الصحيحة برقم (3410)).
وقال أبو أمامة الباهلي : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ، إِلا الْمَوْتُ».
أخرجه النسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، وابن السني، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1595).
بيان عام للآية:
افتتحت أعظم آية في كتاب الله بأعظم كلمة يتكلمها متكلم عبر التاريخ «الله لا إله إلا هو». هتف بها الأنبياء ودعوا قومهم ليهتفوا بها ويشغلوا ألسنتهم بذكرها دون كلل أو ملل. جاهدوا من أجلها القريب والبعيد، الصديق والعدو، وتحملوا كل أنواع الأذى والشدائد، وهم خير خلق الله على وجه الأرض، لإثباتها وترسيخها في قلوب الناس، والعمل بمقتضياتها ظاهرا وباطنا. كيف لا وهي سر الفلاح في الدنيا والآخرة ومفتاح الفوز بالجنة. كل الحقائق في الوجود، والكلام الذي ورد قبلها أو بعدها في كتاب الله إنما ذلك بيانات وتفصيلات ومقتضيات لهذه الكلمة العظيمة التي تضمنت إثبات الوحدانية لله الواحد الأحد، وتدعو إلى إفراده بالعبودية دون سواه، فهو رب العالمين وإله المخلوقين، وهو وحده الجدير بأن تتعلق به القلوب وتلجأ إليه تذللا وتضرعا وافتقارا ومحبة ورغبا ورهبا، ومن فعل غير ذلك فإنما هو الشرك والخسران المبين والعياذ بالله.
أعقبها مباشرة ذكر ما يرجح أنه الاسم الأعظم «الحي القيوم». فقد ورد عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبي أمامة الباهلي أن النبي قال: «اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور من القرآن ثلاث: في البقرة، وآل عمران، وطه».
قال القاسم: «فالتمست في البقرة، فإذا هو في آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي آل عمران فاتحتها: الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، وفي طه: و عنت الوجوه للحي القيوم . أخرجه ابن ماجة والحاكم وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
فهو سبحانه «الحي» الحق. وحياته حياة ذاتية، غير مكسوبة من مصدر آخر، حي أصالة لا تبعا، بل حياة الأحياء من الخلائق كلها إنما تستمدها منه . كما أن حياته سبحانه أزلية لا بداية لها وأبدية لا نهاية لها. وهي مطلقة من الخصائص التي تتميز بها حياة المخلوقات لأنه سبحانه ليس كمثله شيء.
«القيوم» وهذه صفة تدل على أنه سبحانه قائم على كل شيء، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة خالقه وتدبيره.
بعد هاتين الصفتين التين تشكلان في مجموعهما و مع ما قبلهما اسم الله الأعظم يأتي قوله تعالى: لا تأخذه سنة و لا نوم وهي عبارة تنفي عنه السنة الخفيفة أو الغفوة وكذا النوم العميق المستغرق، وتنزهه عن ذلك، لأنه لا يليق به سبحانه وهو القائم على تدبير شؤون الكون وحفظه. وهذا من تمام قيوميته وتمام ربوبيته، بل كيف يغفو سبحانه أو ينام؟ إذن لاختل نظام الكون و فسدت السماوات و الأرض و انهارت كل الكائنات.
ومادام سبحانه هو الخالق لكل شيء والقيوم على كل شيء فهو إذا المالك لكل شيء ملكية مطلقة له ما في السماوات وما في الأرض . وفي هذا نفي لأي شريك مع الله جل جلاله في ملكيته وملكه. وما يدعيه الناس من ملكية أو ملك إنما ذلك عرضي زائل، فهم وما يملكون في حقيقة الأمر ملك لله تعالى خاضعون لملكه وتحت سلطانه، وهم مجرد مستخلفين فيما يعتقدون أنه ملك لهم. وبناء على هذا ينبغي أن يخضعوا وينقادوا لشروط المالك الحقيقي ويسيروا وفق ما رسمه لهم في تشريعاته وأحكامه.
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه هذه عبارة أيضا في غاية الدلالة على مقام الألوهية و مقام العبودية، إذ لا ينبغي لأحد من العبيد أن يتجاوز مقام العبودية و يتجرأ على الشفاعة لغيره دون إذن سيده ومولاه مهما كانت منزلته، ولو في مستوى الملائكة أو النبيئين أو الصديقين أو الشهداء… فلابد للشافع من الإذن وأن يشفع في حدوده.
ومضات من الهدى المنهاجي في الآية:
- معرفة ما صح من فضائل السور والآيات و الأعمال مهم جداللعمل بها ونيل ما فيها من أجر وفضل، فالنفس مجبولة على الحرص على الأشياء بقدر ما تعرف فيها من الفضل والربح ماديا أو معنويا.
- الكلمة الطيبة «لا إله إلا الله» كلمة الإخلاص، فحاول ما استطعت أن تكون كل أعمالك لا تبتغي بها إلا وجه الله سبحانه، وأن يكون قلبك ليس مملوكا إلا لله وحده. فهو سبحانه «كما لا يحب العمل المشترك (فيه شرك) لا يحب القلب المشترك. العمل المشترك لا يقبله و القلب المشترك لا يقبل عليه» (من حكم ابن عطاء الله السكندري).
- يرجح أن الاسم الأعظم هو «الحي القيوم» فأكثر من الدعاء به، فقمين أن يستجاب لك. فقد كان رسول الله إذا نزل به كرب أو شدة دعا الله به، وهو الأسوة الحسنة. فعن أنس بن مالك ] قال: كان النبي إذا كربه أمر، قال: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث !»(رواه الترمذي، وحسنه الألباني في صحيح سننه، وفي السلسلة الصحيحة، وصحيح الجامع، وصحيح الكلم الطيب).
- الله سبحانه «الحي القيوم» واهب الحياة ومدبر شؤون خلقه، فادع الله الكريم الرحيم كثيرا وألح في ذلك أن يحيي قلبك ويثبته على طاعته حتى يكون قلبا سليما تنجو به يوم القيامة «…إلا من أتى الله بقلب سليم».
- أنت وما تملكه ملك لله تعالى. فاجتهد أن تسخر ذلك كله في ما يحبه سيدك ومولاك الحق، ويرضى به عنك.
- إذا كان كل شيء في السماوات والأرض مملوكين لله وحده، وسلطانه مبسوط على كل شيء، ونواصي العباد بيده يتصرف بها كيف يشاء، فلم الجبن والخور وعدم الاعتزاز بالعبدية للمولى الحق لا لما سواه!؟. فلا تهن يا أخي ولا تحزن وتوكل على ربك وثق بنصره ورعايته وحمايته لك ما دمت تنصر دينه الحق وتدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، واصدقه يصدقك، على قاعدة قوله تعالى وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد مباشرة بعدها فوقاه الله سيئات ما مكروا (غافر الآية 44 و45). أليس في هذا علاج من كل الهواجس والأوهام والوساوس الأمنية التي تضعف أو تشل حركة الكثيرين في طريق الدعوة إلى الله!؟

د. محمد محتريم

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>